ثورة تونس

يا صلاة الزين يا صلاة الزين

وحيد الطويلة
( إلى رشيد خشانة) في إحدى حواراتها قالت مادلين اولبرايت وزيرة خارجية كلينتون انها كانت تعتمد طريقة ما لتحدد مدى فرحها أو ضيقها من مضيفها أو ضيفها، كأن تصافحه ببرود، تبقي مسافة بعيدة، تسلم بأطراف أصابعها أو بسرعة، وعلى العكس تصافح بحرارة او تطبع قبلتين خفيفتين على جبين مريدي أمريكا، لكن ياسر عرفات كان يكسر كل شيء ويتخطى كل المستوطنات التي تملكها، تقول: كان مٌقبّلاً ً من النوع الذي لا يقاوم، وتضيف بحنق ـ كأنها هزمت في معركة:لا تعرف من أين تأتيك القبلة.
أضحك، لكنني كنت أغتاظ منه حين يردد من حين لآخر: الرئيس المبارك حسني مبارك، وزين العرب زين العابدين.
كنت أجد له عذراً رغم رداءة التوصيفات ورغم اختلاط الغيظ بالأسى.
أتذكر، أنني كنت وسط خمسة عشر راكباً في سيارة أجرة تسع سبعة ركاب في الطريق من القاهرة الى قريتي البعيدة جداً في شمال مصر حين ركب زين العابدين بن علي، كنا محشورين وجاءنا الصوت الرخيم لأيوب صديق المذيع السوداني الشهير في البي بي سي أيام عزها: زين العابدين بن علي يطيح بآمال الحبيب بورقيبة في أن يظل رئيساً مدى الحياة.
لم أكن أعرف يومها أنني على موعد مع القدر وأنني سوف أشهد يوم إزاحته وخلعه من فوق عرش ديكتاتوريته المكين، وأنني سأكون في طليعة من يخبرون قناة الجزيرة بالنبأ، وربما أول من بكى على الهواء.
عشت في تونس، اكتشفت الحكاية مبكراً، شرع نفر في إقامة رابطة لحقوق الإنسان، رابطة فقط، بحثوا عن قاعة ـ أية قاعة – لعقد اجتماع تأسيسي، وكانت الإجابة إما بالصمت أو بالإشارة وتكشيرة في أفضل الأحوال، اجتمعوا واقفين في الشارع أمام فندق افريقيا باعتبار إفريقيا قارة وتصلح مكاناً للانعقاد، والديمقراطية بدأت تنهشهها في السنوات الأخيرة.
.في ثوان، ظهرت الأيدي الغليظة، أوسعتهم قوى الأمن ضرباً بشجاعة، أمام أعين الناس الصامتين ثم المنسربين في الشوارع المجاورة.
احتجت وزارة الخارجية الفرنسية بعد يومين احتجاجاً بارداً كعادتها تجاه اليد التونسية الحنون. تأخر ساركوزي شهراً هذه الأيام لفروق توقيت مقاومة القمع.
وجاء الرد التونسي الغليظ بعد ساعتين فقط: نحن لا نحتاج إلى دروس من أحد في حقوق الانسان.
الله أكبر والعزة للعرب!!
من ها هنا بدء الحكاية.
صحيح أنها بدأت من عربة خضار كان يعمل عليها البوعزيزي الذي أحرق نفسه وأشعل الثورة، بدأت من الجوع والبطالة لكن الغائب الحاضر دوماً كان حقوق الإنسان وحرية التعبير، غير أن الأكيد أن الناس خرجت أولاً وأخيراً لمواجهة القدم الغليظة للدولة البوليسية التي كتمت على أرواح الناس منذ قفز بن علي على السلطة.
تاريخنا مخصب بالدم.
كان من الممكن أن تخمد السلطة الحكاية لولاه، دم الشهداء في تالة وقفصة هو الذي أشعل الحريق الباهر الذي لم يستطع أحد أن يطفئه، وصدقت نبوءة أمل دنقل في قصيدة ‘ لا تصالح’.. الدم الآن صار وساماً وشارة.
يبدو أن أنظمتنا لا تحب الاعتصام السلمي الذي ينادي به عبد الحليم قنديل والبرادعي وحمدي قنديل، صباح مساء تعتبره وجبة خفيفة ولعب عيال ولا ترضى بغير الدم بديلاً.

قال جاري في المقهى – كلاهما ناهز الستين -: منذ شهر فقط عرفت جيراني، كنا نخفض أصواتنا حتى لا يسمعوننا حتى ولو كنا نتحدث في كرة القدم.
كأن الناس ضبطوا أنفسهم متلبسين بالحرية، لذا جاءت لحظة خوف، راحت سكرة الخلاص من الديكتاتور، وجاءت فكرة التخلص من الديكتاتورية.
في رواية لجبر ابراهيم جبرا، كان القصف الأمريكي ينهال فوق بغداد والناس تختبىء من المنضب وغير المنضب، لكن وردة حمراء في حديقة المنزل الأمامية كانت تنتصب وتفتح أوراقها.
في تونس كان بعض المتطوعين يكنسون آثار حريق أشعله بعض كلاب السلطة، كانوا ينظفون المكان من آثارهم، يكنسون القمامة وهم يكنسون معها خوفهم، يكنسون معها بن علي.
عبقرية القمع لا تنضب ،وحلمي سالم لا يدين مخترعي قوانين الكبت فقط، بل ويضيف: ومسوغها للمكبوتين.
في الانتحابات الأخيرة لبن علي، دخلت إلى إحدى اللجان مع صحافي مصري عزيز يناضل ضد آلة الإعلام المصري من سنين، تقريباً منذ أيام الرائد المتقاعد صفوت الشريف، عبقرية بطانة النظام التونسي تفتقت عن حيلة لم يصل اليها الأمريكان أو الفرنسيس، لم يضع اسم الرئيس في لائحة واحدة مع المترشحين الظرفاء. الناس مقامات، بل وضعوا لكل مرشح ورقة بلون مختلف، تسحب ورقة مرشحك علناً أمام أعضاء اللجنة، ورقة الرئيس كانت والله حمراء، حمراء بلون الدم، والمضحك في الأمر والموجع أيضاً أن هناك ستارة يدخل وراءها المواطن بورقة المرشح الذي اختاره ثم يغمس خنصره في الحبر، الحبر كان باللون الأزرق الفوسفوري.
كانت أوراق الرئيس تسحب من أمام أعضاء اللجنة وتتناقص، وأوارق المرشحين الورق كما هي بألوانها الكابية.
في مطلع الليل، كانت إذاعة موزاييك المملوكة لبنت الرئيس تبث النتائج على الهواء مباشرة من الولايات المختلفة، والأرقام تؤكد أنه سحق الجميع، وبين فقرة وأخرى أقصد بين ولاية وأخرى كان صوت المطرب المصري محمد رشدي ( يلعلع) بأغنية الشيخ زكريا أحمد الشهيرة:
يا صلاة الزين على الأمراء، يا صلاة الزين.
الآن أغني يا صلاة الزين، وأمسح غيظي من عرفات.
نهاية أفضل للمقال.
في الوقفة الأخيرة أمام وزارة الداخلية في شارع الحبيب بورقيبة بتونس، قبل خلع المخلوع بساعات قال واحد بجانبي: قبل أن أموت أريد أن أحرق هذه الوزارة.
قال الذي يقف بجانبه: لا يا رجل، بها كل شهادات ميلاد التوانسة.
رد الأول: بعد حرقها ستكتب لنا الحرية سيكون لكل منا ميلاد جديد.
كاتب من مصر مقيم في تونس الجديدة
القدس العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال فاتن وذكي
    كيف نصيغ اللحظة دون صراخ
    الكاتب انتقى الأ[حداث الخلفية التي بينت الواقع التونسي المظلم
    ومهدت للثورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى