حتى لا تتحول جمهورية البوعزيزي إلى ثورة ‘ياسمين’
نبيل نايلي
‘إن مواصلة نفس خيارات الحداثة المعطوبة المتنكرة لتاريخ وجغرافيا البلاد التونسية وللقيم العقلانية الحديثة، التي تعترف بحق الاختلاف وتدين المركزية الثقافية، معناه اغتيال ثورة تونس وشعبها الأبي، الذي أنجز ثورته الطاهرة بعيدا عن معونة مفسد الحساء الامبريالي. انتصار الثورة في تونس فتح ممكنا وطنيا لدك عروش الاستبداد والفساد، بعيدا عن التآمر الخارجي، لذلك ينظر إليها الجميع بريبة. حماية الثورة في تونس اليوم أمانة، لأنها اختبار لهذا النهج الذي سيتحول حتما إلى نموذج عربي ينهي تحالف الاحتلالين الأجنبي والمحلي’.
هكذا تحدث الباحث والأكاديمي محمد لمين بوعزيزي، معلّقا على ما يجد بتونس وهي تخوض فصلا جديدا من فصول ثورتها الوليدة والمستهدفة. وليس أبلغ مما جادت به قريحــــته، وهو الذي خاض ولا يزال معاركه الميدانية ملتحما وإخوته بالجماهير المسحوقة أيام سطوة النـــظام الجائر الذي لم يتفكّك بعد. لقد كنا ولازلنا على يقين يتحدى أدنى شك ألاّ وكلاء على الثورة، فليس للثوار وكلاء ولا أوصياء سوى وعيهم الثوري وعزمهم وتصميمهم. ذلك لا يمنعنا من إسداء بعض النصيحة والتوجيه في غمرة التفاؤل المبالغ فيه، الذي قد يضيع البوصلة وينتهي عند النهايات التي قد تم تحديدها مسبقا من جهات مشبوهة داخليا أو خارجيا.
يراد لنا أن نصدّق أن الثورة أنجزت وأن أقصى حلم البوعزيزي، ومن تلاه ممن سقط من الشهداء ومن احتشد طيلة أيام الانتفاضة بصدور عارية، إلا من إيمانهم بحقهم في الحياة بكرامة، هو مولود مسخ متمثّل في حكومة يشكّلها هذا الذي لا يزال ‘يعترف بابن علي رئيسا’.. حكومة ليس لها من توصيفها، بـ’حكومة وحدة وطنية’ غير الاسم، وإلا فليفسّر السيد الغنوشي ومن وافق على ‘طبخة استنساخ للنظام السابق’، أين هي الوحدة الوطنية هذه إذا كانت المناصب الوزارية للأحزاب المعارضة لا تتجاوز ثلاثة مناصب، ولوزارات غير سيادية؟ حتى أن أحدهم سيتولىّ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، في حين أن الجامعات ستظل مغلقة طوال الفترة الانتقالية.
يراد لنا أن نقتنع بمسرحية صناعة الرأي، التي مارستها ولا تزال وسائل إعلام الحرس القديم، وسيلتها في ذلك استراتيجية الصدمة والترويع، صدمة الانفلات الأمني وترويع السغب وشح المواد الغذائية، فنقنع بالذي دبّر بليل بتزكية وتواطؤ بعض الأحزاب، التي كانت حتى قبل رحيل الطاغية تقبل به رئيسا إلى غاية 2014، لتحصل على حقيبة وزارية غير سيادية يتيمة. وكأن التونسيين، وهم من ثاروا على المخلوع وزبانيته واستبسلوا حتى الشهادة، سيكونون أقل صبرا من إخوتهم بغزة أو لبنان أو العراق، ممن مرّوا بظروف أحلك وصمدوا ولا يزالون.
يراد لنا أن نبارك اغتيالا منظّما لثورة الجياع والمسحوقين والمهمّشين ليتمخّض الجبل فينجب فأرا، وينحرف الحلم الجماهيري من ‘جمهورية البوعزيزي’ إلى ‘ثورة ياسمين’، كتلك التي تحرّكها الأصابع الخفية ممّن فضحوا الطاغية بتسريبات جوليان أسانج وفريق ويكيليكس أولا، ثم تخليّهم المنتظر عن أحد أعوانهم بالمغرب العربي ثانيا، فالالتفاف بصمت وخطف حلم من انتفض ولا يزال ثالثا. انقلاب قصر بإخراج هوليوودي ومحاولة بائسة للالتفاف على الثورة التونسية، وتفريغها من محتواها، في عملية محاصصة بين الدكاكين السياسية لتعود تونس إلى واقعها المرّ وأزمة أحدّ، وليتولّى أصحاب المصالح الضيقة، ممن يمارسون وصايتهم ويصادرون إرادة الشعب، قطف ثمار استحقاقات ثورتهم المعمّدة بالدم واللحم المحترق.
ولكننا نحذر الثوار بتونس أنهم كسبوا جولة، ولم يكسبوا الحرب بعد، فالمخاطر التي تحفّ كل الثورات قائمة بكافة أضلاعها مستنفرة لتجهز على الحلم جنينا: دعاة الثورة المضادة يعزّزهم استنفار النظام الرسمي العربي، وتآمر القوى الدولية التي تبدو بصماتها بوضوح في رسم التشكيلة الحكومية لما يسمّى بالـ’وحدة الوطنية’.
دم البوعزيزي وغيره من الشهداء أمانة في أعناق القابضين على الجمر من مناضلين وطنيين لا مسترزقين ومحترفي سياسة.. هل سنحفظ الأمانة؟
على أعتاب مرحلة مفصلية تقف تونس وعبرها باقي الأواني العربية المستطرقة، لأن نجاح الفعل الثوري في تونس سيعجّل بلحاق باقي جماهير هذه الأمة مستلهمة من التجربة تحدوهم نفس الأحلام. وعليه فمسؤولية إنجاح هذه الثورة وإيصالها إلى بر الأمان هو تأسيس لانتفاضة عربية شاملة تدك عروش هذه الدول الإقليمية الفاشلة وتبشّر بغد أفضل. فما يجري في تونس اليوم يتوقف عليه المستقبل العربي، وربما العالمي من دون مزايدة أو تبجّح. لقد أثبتت الجماهير التي نعتت بأقذع التوصيفات وتعالت عليها النخب وسفهتها، أنها قادرة على القيام بما لم تقم به الأحزاب والتنظيمات ومنظمات المجتمع المدني. لم يلجأ شباب تونس وشاباتها إلى الاستقواء بالأجنبي، ولا انتظروا جلبي يأتيهم على ظهر دبابة فرنسية أو أمريكية، وخاضوا نضالاتهم وسطّروا ملحمتهم بدمائهم ودموعهم في مزج عجائبي بين النضال الشعبي الميداني والنضال السيبرنيتي الذي وظّفوه كأفضل ما يكون التوظيف.
فلنتواضع لهم ولنستخلص العبر، وقد فعل ذلك زعماء الأمم، وإن نفاقا، كهذا الأوباما القائل: ‘إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب المجتمع الدولي للشهادة على هذا النضال الشجاع من أجل الحصول على الحقوق العالمية التي يجب أن نحافظ عليها، وسنذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى لإسماع صوته’. هل يفعل هؤلاء الذين يعودون إلى تونس، زرافات ووحدانا في سباق محموم لاقتسام كعكة قد تكون وُزّعت وانتهى الأمر؟ متى سيتم ردم الهوة السحيقة بين طموحات من فجّر الانتفاضة وتصدّى ولا يزال بصدر عار وإرادة صلبة، وتردّد بعض الحركات السياسية والأيادي المرتعشة للمعارضات والدكاكين السياسية؟ المراوحة بالمكان لن تخدم إلا أعداء التغيير ودعاة الثورة المضادة، أو لعودة العسكر من الباب الكبير تحت ذريعة فشل الخيار السياسي. هل تشفع مبررا تلك السنوات العجاف للتدجين الفكري والتصحير الثقافي والتجفيف المنظّم لأبسط مقومات الحراك السياسي، بفعل أنظمة الدولة القطرية المجرمة العاملة على تفكيك البنى الحزبية والفكرية، وتسفيه الفعل النضالي بدعوى الحفاظ على السلم والأمن، وتحنيط أدوات الصراع الفكري والجدل الاجتماعي؟
أسئلة ملحّة والرد عليها أكثر إلحاحا، ألاّ نفعل نكون قد خذلنا الثوار والجماهير وحوّلنا جمهورية البوعزيزي إلى مجرّد ثورة ‘ياسمين’، كتلك الثورات الملوّنة التي تعرفون. قبل ذلك لا بأس بشيء من الفخار بهذه النار التي ‘دبّت في الهشيم ولا مجال للقضاء عليها إلا بحكمة تقرأ بعيني زرقاء اليمامة’.
‘ باحث في الفكر الاستراتيجي ـ جامعة باريس
القدس العربي