إعلام الأبواق.. والفنانون المنافقون في مواجهة حساب الحرية العسير
محمد منصور
ظهر المطرب التونسي لطفي بوشناق على قناة ‘الجزيرة’ بعد سقوط الديكتاتور زين العابدين بن علي ليدعو التونسيين إلى الوحدة… لكن ظهوره لم يغير في حقيقة رأي التونسيين بفناني بلدهم، الذين آثروا السلامة والتزموا الصمت قرابة الشهر من عمر الانتفاضة التي أسقطت الطاغية، رغم رصيدهم العربي الذي يمكن أن يشكل لهم حماية، ورغم وجود بعضهم خارج تونس أثناء تفجر تلك الأحداث.
فكان حال بوشناق مثل حال لطيفة العرفاوي الشهيرة بالتونسية، وهند صبري التي أثرَت بحضورها السينما المصرية، وصابر الرباعي الشهير بأغنية (سيدي منصور يا بابا… ونجيك نزور يا بابا) ومن حسن حظه طبعاً أن هذه الأغنية التراثية، التي انطلق من خلالها في بداية مشواره، لم تأت على ذكر (سيدي بوزيد) بل (سيدي منصور) وإلا لتم تفسيرها تفسيراً آخر قد يدفع الرباعي للتبرؤ منها كلية.
الفن الممالئ للأنظمة والساكت على الحق، في زمن تحتاج فيه المجتمعات إلى نخبها كي توصل ألمها على الأقل، يتصل هذا الفن أيضاً بالإعلام، وخصوصاً الإعلام التلفزيوني. فالإعلام التلفزيوني في ظل الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، هو أرض النفاق والاستزلام وبؤرة الفساد والسطوة الأمنية بلا منازع… ولذلك تتعرض المحطات التلفزيونية التونسية لجردة حساب عسيرة للمواقف اليوم… فيقصى المدير العام للتلفزة التونسية لعلاقته السابقة بمستشار الطاغية المخلوع، وتنقلب برامجه ولغة خطابه رأساً على عقب، وتوجه اتهامات لمالك قناة (حنا بعل) التونسية الخاصة، وتثار شكوك حول علاقته بالنظام السابق، بل يطال الاتهام صاحب أكبر شركة إنتاج فني في تونس حول علاقته بعائلة الطرابلسي التي قال الشعب التونسي كلمته في فسادها.
وهكذا يجد الفن نفسه أمام امتحان الضمير… والأبواق الإعلامية أمام امتحان الحرية العسير، حيث يرى الناس فيه صورة كل المظالم التي كانت تغطى، والأكاذيب التي كانت تروج، وعمليات التزوير التي كانت تجري… فمن يشفع للفساد الإعلامي في زمن الحرية، ومن يبرر لهؤلاء أو سواهم أنهم كانوا مكرهين على أداء هذا الدور، حتى لا ينتهي دورهم في الحياة برمتها؟ ومن سيتفهم كيف وقعت لطيفة التونسية وأمينة فاخت ولطفي بوشناق وصابر الرباعي وهند صبري على ما صار يعرف اليوم بـ(عريضة العار) التي وقعتها شخصيات تونسية شهيرة عام 2010 مطالبة زين العابدين بن علي الترشح لفترة رئاسية جديدة.. ومن يبرر للتلفزيون التونسي أنه نظم حفلات غنائية ساهرة (ابتهاجاً) بقبول بن علي الترشح لتلك الفترة الرئاسية التي لم يهنأ بها، رغم أنها صورت باعتبارها أمنية ومطلباً ملحاً للشعب بأسره.
أسئلة كهذه لا يجد الشعب الثائر لكرامته وقتاً في الإجابة عليها.. وربما لا يجد الكثير من التونسيين الرغبة في التسامح والصفح، لأن شمس الحرية تفضح ظلام الليل الطويل الذي عاشوه… ولا يجد أحد نفسه معنياً بالدفاع عن الظلام وتبريره، لأن (الظلم ظلمات) كما يقول المأثور الديني.. وكما يعرف الناس من واقع المظالم التي خبروها بأنفسهم.
تنكشف في زمن الحرية الأقنعة، ويلبس كل واحد حقيقته، فالشفافية تفضح التخاذل، ودم الشهداء يفضح الانتهازية وإيثار السلامة الشخصية والسعي للمجد الشخصي… وبالمقابل لا ينسى التونسيون أن هناك فنانين وقفوا وقفات احتجاجية مشرفة في فترة الانتفاضة، كالمسرحي الفاضل الجعايبي والممثلة جليلة بكار ونصر الدين السهيلي، الذين تعرضوا للضرب وسط العاصمة التونسية، حين وقفوا وسط حقوقيين ومواطنين متضامنين مع ضحايا الانتفاضة قبيل سقوط الطاغية.
لا يملك الناس في زمن الحرية أجهزة مخابرات يستدعون إليها هؤلاء الفنانين كي يلقنوهم التوجيهات، كما في زمن الديكتاتورية، ولا يملكون أوامر موجهة بالتعتيم والاستهداف وإحكام الحصار على من لم يثبت ولاءه… ولا يعمدون إلى إجراءات عقابية تتم في غرف مغلقة ومن تحت طاولة السلطة… فحساب الحرية العسير مع النفاق، حساب شفاف للغاية، يقال فيه الكلام على العلن وفي وضح النهار، ويواجه المتهمون فيه بتهمهم على الملأ… وقد يصدر كل إنسان بمفرده حكم القيمة على هؤلاء… وقد يتفهم بعض من يريد أن يتفهم ويبرر، لكن في النهاية يبقى الفنان أمام الحساب الأقسى: حساب التاريخ والضمير.
طبعاً.. ليس الفنانون التونسيون الذين ذكرناهم، استثناء عن زملائهم الفنانين العرب في النفاق وممالأة الأنظمة والغناء والحداء لها… فقد غرق نجوم الفن العربي في مستنقع النفاق السياسي، حتى ليظن المرء أن هذا صار جزءاً من تكوين الفنان العربي ومن مستلزمات وإكسسوارات العمل الفني نفسه… لكن الدرس التونسي المحرج، يجب أن يدفعهم للتفكير في الصورة التي يحب الفنانون أن يظهروا فيها أمام ضمائرهم وأمام شعوبهم، إذا أزف حقاً عصر الشعوب العربية كما يقول المتفائلون اليوم.
على الفنان العربي باختصار أن يرسم صورة حيادية لنفسه على الأقل، يخرج فيها من دوره الرث كمسوق لثقافة النفاق في الوسط الاجتماعي الذي يحيا فيه، وأن يقيم حدوداً فاصلة بين الانتماء للوطن الذي لا غبار عليه، والانتماء للأنظمة وتبرير كل خطاياها بحق شعوبها… لأن المواطن العربي لم يعد غبياً اليوم كي يصدق أن هذا الفنان يذوب في عشق حاكمه ويفديه بالروح والدم والأفلام والمسلسلات والأغنيات.
لأول مرة في التاريخ: الإعلام العربي الموّحد
اختلفت الأنظمة العربية ومحطاتها التلفزيونية حتى على صوم رمضان وهلال العيد… واختلفت في الحرب والسلام، وفي الاحتلال والمقاومة، وفي العلاقة مع أمريكا، وفي أزمة دارفور، وقضية أبيي، وفي وحدة وانفصال جنوب السودان، وفي الموقف من إيران وملفها النووي، وفي دعم جماعة 8 اذار و14 آذار في لبنان، وفي حكومة المالكي وعلاوي في العراق، وفي دور قناة (الجزيرة) ما إذا كان تخريبياً أو تنويرياً… لكنهم جميعاً أجمعوا على تصوير ما حدث في تونس، تصويراً هزيلاً ومضطرباً، ويدعو لليأس والخوف.
لم يحدث أن توحد الإعلام الرسمي العربي في قضية في النصف قرن الأخير، كما يحدث الآن إزاء ثورة الحرية في تونس… فالمحطات التلفزيونية الرسمية التي تجاهلت الحدث برمته أو لم تتجاهله، تتفق اليوم على تسفيه ما حدث، وتحجيمه، وتسخفيه، وإبداء الريبة منه، وإظهاره بمظهر القفز إلى الفوضى والمجهول.
السيد أبو الغيط يظهر في مؤتمر صحافي متلفز ليعتبر أن (مصر ليست تونس) وأن أي تشبيه من هذا النوع هو (كلام عبيط). والرئيس اليمني عبد الله صالح يقولها بالحرف أيضاً: (اليمن ليس تونس). وفي الجزائر يظهر المسؤولون ليرددوا الكلام نفسه… حتى ليظن المرء أن تونس هذه قطعة من كوكب المريخ… وهي لا تشبه أي موقع آخر أو بلد آخر على كوكب الأرض!
أفضل رد عربي رسمي على ما حدث في تونس برأيي، هو أن يقرر الزعماء العرب طرد تونس من الجامعة العربية، كي يقطعوا مع حريتها (المشبوهة) آخر نسب يمكن أن يؤرق أحلام ليلهم السعيد.
قناة فرنسا العربية تنتعش بالحدث التونسي
قناة (فرنسا 24) الناطقة بالعربية، كانت من أفضل القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية التي غطت الحدث التونسي… فقد تقدمت على (بي بي سي)، وعلى (روسيا اليوم) وعلى القناة التركية الناطقة بالعربية أيضاً… وامتازت تقاريرها وتغطياتها بالحيوية، والقدرة على مواكبة التطورات الدراماتيكية المتسارعة، ونقل وجهة النظر الفرنسية المهمة في الأحداث، كما كانت قريبة من نبض الشارع العربي في رؤية الحدث واجتلاء معانيه، أكثر من كثير من القنوات العربية المحسوبة علينا.
وكما كانت بعض الأزمات في العالم ضربة حظ لقنوات تلفزيونية كثيرة استطاعت أن تبرز في هذه الأزمة أو تلك… فربما يكون الحدث التونسي رافعة لهذه القناة كي تدخل في دائرة اهتمام المواطن العربي، وترفع من وتيرة حسها المهني في التعامل مع هموم العالم العربي، وفي التعبير عن روح جديدة تحكم الرؤية الفرنسية، بل والأوروبية التي أعطاها الحدث التونسي بلا شك مؤشرات جديدة لم تكن في حسبانها.
ناقد فني من سورية
القدس العربي