إمكانية الحرية أم استحالتها في الوطن العربي؟
ميشيل كيلو
لا مبالغة في القول: إن تونس تجتاز اليوم، وستجتاز لفترة غير قصيرة، اختبارا هائل الأهمية بالنسبة للوطن العربي والعالم، سيتبين معه إن كنا نقف، كعرب، أمام إمكانية الحرية أم استحالتها!.
كنا نترقب شكل انخراط العرب في مسيرة الحرية والديمقراطية، التي عرفها العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وكنا نقرّع أنفسنا وشعوبنا لأنها لا تتحرك، بل تبدو كمن فقد الإحساس بكل شيء: من الحاجة إلى لقمة العيش إلى الحق في الحرية والكرامة والحياة. بعد صمت دام نيفا وعشرين عاما بقي العرب خلالها بمنأى عن موجات الحرية، التي اكتسحت العالم وجرت وقائعها قرب الأسوار الخارجية لأوطانهم، ساد اقتناع كان يلخص بجمل قليلة: فالج، لا تعالج. ليس العرب كغيرهم، إنهم حالة خاصة لا تشبه أحدا ولا يشبهها أحد. وهم، على ما تبنيه سلبيتهم وبلادتهم التي تتضخم بمرور الأيام، ليسوا بحاجة إلى الحرية، أو الديمقراطية، أو المواطنة، أو حقوق الإنسان، أو حكم القانون، أو العدالة، أو المساواة، أو الكرامة، عامة كانت أم شخصية. ولا شك في أن الاستبداد هو النظام الذي يعبر عن حقيقتهم، وأنهم لا يتحركون لأنه راسخ كالجبال في بلدانهم، فلماذا يتحركون إن كان لديهم ما يشتهون ويريدون، وكانوا سعداء بوفرته، ولماذا يتفهمون أو يتقبلون تململ بعض مثقفيهم أو مواطنيهم العاديين من حين لآخر؟.
كان العقل النقدي العربي يتساءل دوما: متى سيتحرك الناس، البشر العاديون، الشعب الرازح تحت جبال من البؤس والذل والخائف إلى درجة الذعر من القبضات الحديدية، والقانع بالإفساد والجوع والاحتقار؟. كنا نطرح هذا السؤال بعد كل تحرك شعبي يشهده العالم، ونتصور الألوان التي ستكون شعار التحرك الشعبي العربي: هل هي البرتقالي أم الأبيض أم الأخضر أم الأحمر، ونتخيل الساحات التي سيتجمع البشر فيها، والهتافات التي سيطلقونها، والعلاقات التي سيقيمونها مع قوات الشرطة والأمن، وهل سيصمدون في وجه الهراوات والبنادق، ومن سيشارك منهم في التظاهرات، وهل سيكون للشباب والنساء نصيب الأسد منها، في حال غاب عنها المسنون والعاملون من الرجال، وكم ستستمر قبل أن تعطي أكلها، وتبدأ بتغيير الأوضاع، الذي يجب أن يأخذ صورة تحول تدريجي آمن ومتوافق عليه، كي لا تنزلق بلداننا من حال الاحتجاز الذي تعيشه منذ عقود إلى حالة فوضى قد تأكل الأخضر واليابس، وتؤدي إلى سيطرة مغامرين وحمقى وجهلة ومزايدين على الحراك الإصلاحي، فيخرج عن مساره ويجافي أهدافه وينتهي إلى كارثة تغلق طريق الحرية، المطلوب بالأحرى فتحه، بينما الشعب قليل الخبرة بالسياسة، والنخب تفتقر إلى وعي وبرامج واقعية ملائمة وفاعلة، والحكومات إلى الرغبة في الإصلاح، وأبواب البلاد وعقول العباد مفتوحة أمام تدخلات الخارج وألاعيبه، بما في ذلك الخارج الإسرائيلي.
في هذا الجو، وبما أثاره من حيرة ومخاوف، كنا نفضل توافقا بين النخب المجتمعية وتلك التي في السلطة، تتفاهمان خلاله على خارطة طريق لخروج الأوضاع من أزماتها ومآزقها الكثيرة، وكسب الشعب لما تتفقان عليه، ما دام اتفاقهما على إصلاح سلمي، متدرج وآمن ومدروس، يتيح له الانخراط في التغيير، ومغادرة خوفه من السلطة وأجهزتها، دون أن ينزلق إلى متاهات لا يعرفها أو يريدها، ستجعله حتما ينطوي من جديد على ذاته، إن هو خرج أصلا من حالة السلبية والموت الشتوي، التي يعيش في نعيمها، ذليلا وخائفا، مع أنه يتمنى الخروج منها، ولكن ليس بحرق جلده الخاص، الذي يريد الحفاظ عليه في جميع الظروف والأحوال.
هذه الحسبة المنطقية، التي تضمن تغييرا آمنا لا يخسر فيه أحد، مع أن بوسعه إخراجنا من المتاهة الراهنة، كانت عامة في ديار العرب، بعد أن لعب المثقفون دورا رائدا في الوصول إليها. لكنها انتهت مع رفض السلطة العربية لها، وامتناع نظمهما عن قبول حل المثقفين والنخب ذات الحساسية خاصة حيال مسائل وضرورات الحرية وحقوق الإنسان كالمحامين وأساتذة الجامعات والمعلمين والكتاب والصحافيين والأطباء والمهندسين والعاملين بأدمغتهم، وقسم مهم من العاملين بأيديهم، ممن يتوفرون على درجة مقبولة من الاهتمام والوعي بالسيرورات المجتمعية وبالنتائج المأساوية، التي ترتبت على أنماط التنمية المعتمدة، وبحقيقة الأوضاع السياسية الكارثية القائمة … الخ. برفض نمط التحول المقترح، الذي يقوم على مصالحة وطنية عامة من جهة، وعلى مبارحة الواقع السلطوي والمجتمعي القائم، والبحث عن بديل جماعي له، يكون مقبولا من الجميع، لأنه نتاج حواراتهم وتوافقهم ورغبتهم المشتركة في تغيير لا يطيح بالسلطة بل يجعل منها قوة إصلاح تتحسس مسؤولياتها، وترغب في إخراج شعبها من ورطة تاريخية قاتلة فرضتها عليه من خلال خياراتها وسياساتها، من جهة أخرى، تأكد أن خيار الأمر العربي القائم هو إدامة الاستبداد السياسي، والتفاوت المجتمعي، والفساد والإفساد، وأنه لا يريد أن يتزحزح عن مواقعه، أو أن يغير أي شيء في واقعه يمكن أن يبدل موازين القوى بينه وبين المجتمع عموما، وبينه وبين النخب المثقفة خصوصا، وبدا جليا أنه يرفض التعامل غير الأمني مع شعوبه، التي تستطيع بكل بساطة أن تموت كمدا وحرمانا في نعيم السلطوية، أو أن تذهب إلى الجحيم الأخروي، متى شاءت.
بفشل البديل المقترح، بدت السبل مغلقة أمام أي إصلاح يعيد النظر على أسس جديدة في الواقع العربي المتردي، فلا يموت معها الذئب ولا يفنى الغنم، كما يقال. ثم تعاظم طابع النظم السلطوية الأمني أكثر فأكثر، حتى بدا وكأنها تقول لشعوبها: لا بديل للذل والرضوخ، ولا بديل للوضع الراهن، الذي سنحافظ عليه إلى الأبد. كان العقل السلطوي يرى الأمور على النحو التالي: السلطة موحدة وقادرة على احتواء الحياة العامة، الضيقة إلى أبعد حد والقليلة التمايز سياسيا وثقافيا، من خلال أجهزة أمن مخلصة وقادرة ومنتشرة في كل مكان، هي شعب بديل بكل معنى الكلمة: شعب سلطة تشكل مع أجهزتها عالما مستقلا عن عالم مجتمعها ومواطنيها، التابع له حتى العظم. إلى هذا، هكذا فكرت النظم السلطوية، ليس هناك معارضة جدية، هناك فقط اعتراضات غير منظمة يتبناها أفراد يخضعون لرقابة صارمة ولحظية، تفصلهم بنجاح عن مواطنيهم وتقطع قنوات التواصل فيما بينهم هم أنفسهم، بينما الشعب غائب، عن الواقع والوعي، وبعيد بالتالي عن أي فكر، وأية ممارسة تؤهله للتمرد أو الاحتجاج أو المشاركة في الشأن العام. كان سؤال الأنظمة الذي لطالما طمأنها: من الذي يمكن أن يتحرك، ومن أين سيأتي الخطر، في هذا الوضع الممسوك من ألفه إلى يائه، الباقي إلى أبد الآبدين ؟. والنتيجة :لا تغيير ولا من يحزنون، والويل لم يطالب بالإصلاح. لا عجب أن تتفاقم، في ظل هذا الخيار، مظاهر التهتك المجتمعي، والفساد الحكومي، والخراب الاقتصادي، والضياع الوطني، وأن ينقلب هذا الواقع بالذات إلى مصدر الخطر الرئيسي على نظام أنتجه ليطمئن، فبينت انتفاضة تونس أنه مقتله، ليس فقط لأن حياة الشعب مشحونة بأزمات اجتماعية، يومية وشخصية وبلا حل، ودور النخب مثقل بأزمة روحية تغطي سائر مناحي وجود السلطة والمواطن والدولة والمجتمع، بل كذلك لأن تفاقم الأزمات والعجز عن فهم الواقع وتطوير وسائل ناجعة للتصدي لمشكلاته، جعل نتيجة التقاء الأزمتين الاجتماعية الشعبية – والمعنوية / الروحية الثقافية – لقاء بين الشعب والنخب عبر عن نفسه في الانفجار الذي جاء أول الأمر من تحت، من القاع المجتمعي، ثم ما لبث أن التحقت الأحزاب وخاصة منها رموزها المثقفة، فأطاح بالسلطوية، التي لن يبقى لها من الآن فصاعدا غير أحد خيارين: الإصلاح أو الندم في مستقبل قد لا يكون بعيدا على رفضه، بعد أن تتأكد من أن الضمانات الأمنية أوهام لا تضمن شيئا، وأنها لو كانت ضمانات حقيقية لما زال أي نظام في العالم، وأن إيمان الحاكمين بجهل الشعب وغربته بعضه عن بعض وعن النخب المثقفة والمسيسة، وقولهم بكل جدية أنه ملتف حول قادته سعيد بالانقياد لهم، معتز بثرائهم وفقره، حريتهم وعبوديته، تخمتهم وجوعه، ليس غير أكذوبة لا يصدقها البشر العاديون، والغريب أن من يطلقونها يتظاهرون بتصديقها!.
إن ما حدث في تونس كان الرد على رفض مطلب الإصلاح. وهو رد من طبيعة الواقع، أنجزه الشعب العادي، الذي تحرك من تلقاء ذاته، دون أن ينتظر النخب أو يتلقى أوامر منها، وإن كان من غير الممكن إنكار فضلها في تزويده بالأفكار التي أطرت مشاعره حيال النظام، وبينت له الأهداف التي يجب أن يتبناها، وقدمت له الشعارات التي رفعها خلال تمرده، ورسمت المدى الذي يجب أن تذهب حركته إليه، وهو: تغيير النظام السلطوي واقتلاعه من جذوره وليس إصلاحه، بعد أن بيّن موقفه من مشاريع الإصلاح، التي رفضها بغرور وجلافة، وسلوكه بعد رفضها، أنه غير قابل للإصلاح أصلا. لم تقم المعارضة السياسية والمنظمة بالتمرد، بل تمرد شعب كان يقال بإصرار إنه موال وملتف حول قائده، أو خانع وخائف وراض. ألا يذكر هذا بما جرى في بلاد السوفييت، حيث سقط أحد أقوى نظم الدنيا وأكثر جبروتا وأمنية وقمعا دون أن تكون هناك أية معارضة: منظمة كانت أم غير منظمة ؟. كانت السلطوية العربية مطمئنة إلى أن النخب لا تستطيع إسقاطها، والشعب غائب عن الشأن العام، فأكدت انتفاضة تونس المجيدة والفريدة أنه اختزن مشكلاته في ذاكرته الحية ووعيه بشؤونه اليومية وبالظلم الواقع عليه، وأنه لم يكن غائبا لمجرد أن السلطة لم تكن تفهمه أو تدرك إلى أين وصلت نقمته المتراكمة في صدور بناته وأبنائه جميعهم، وحين انفجر من الألم والذل، بعد أن أيقظت في نفسه فداحة وضعه واقعة تعد شخصية بكل معيار، هي قيام الشهيد الخالد محمد البوعزيزي بحرق نفسه احتجاجا على صفعة تلقاها من شرطي، أخذ انفجاره صورة إعصار جرف كل شيء في أيام قليلة، أجبرته سياسات السلطة وسياطها على البحث عن بديل انفجاري، لأنها سدت جميع السبل الأخرى في وجهه، وأقنعته أنه هالك لا محالة إن بقي صامتا وذليلا، فلا خيار له غير الخروج عليها شاهرا في وجهها قدرا من الغضب والاحتجاج، انهارت أمامه كبيت من ورق.
هل سيتوقف انهيار السلطوية عند تونس، أم أن دلالته الرمزية تشمل الوطن العربي بأسره، حيث تسود ظروف تونسية بامتياز: على جانب السلطة، كما على جانب المجتمع والنخب.
شقت تونس طريق الحرية بدماء وغضب بناتها وأبنائها، ودشنت زمنا عربيا جديدا سيضع، بالإصلاح أو بالثورات الشعبية، حدا للاستبداد، الذي قتل الأمة، ولم يترك لها خيارا غير الهلاك أو الخروج لقتله. إن تونس هي البداية، والعربي ليس خارج التاريخ، أو حالة خاصة تستطيع العيش دون كرامة أو حرية أو عدالة أو مساواة !. إن ثورة تونس هي الرد الجلي على السؤال الذي لطالما طرحه العقل النقدي العربي: هل الحرية ممكنة عندنا أم مستحيلة؟. وقد جاء الجواب مجلجلا: الحرية حتمية والاستبداد إلى زوال، لأن استمراره هو المستحيل ذاته!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي