تونس كلمة لا بد منها
غسان المفلح
07.10. 1987، تسلم زين العابدين بن علي السلطة في تونس بانقلاب أبيض على الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، ولم يكن أمام بن علي في تلك الأثناء ما يمكن أن يغطي شرعيته الانقلابية هذه، سوى برنامج سياسي يستطيع أن يعيد استقطاب النخب التونسية لصالح ذاك الانقلاب، بدأ بإقرار التعددية السياسية، والسماح للأحزاب والمنظمات التونسية بالعمل العلني، ومنذ ذلك التاريخ راح المجتمع المدني التونسي يتطور ويغلي حركة، وتنشأ تنظيمات وجمعيات مدنية جديدة، هذه الفسحة من الحرية التي أقرها دستوريا النظام الجديد، كانت قد أتت أيضا على قاعدة من المدنية التونسية النسبية، التي أسس لها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، حيث جاء ‘البيان الأول’ الذي ألقاه بن علي على الشعب التونسي معبرا عن معظم تطلعات التونسيين ونخبتهم، كما فتح الرئيس بن علي لأول مرة قصر قرطاج في وجه الأحزاب والمثقفين من غير المُنتمين للحزب الدستوري الحاكم، منذ استقلال البلاد عن فرنسا في اذار/ مارس 1956.
هذه نقطة لا بد من تسجيلها لصالح بن علي، حيث وضع تونس على عتبة الحرية السياسية، صحيح أنه لاحقا بدأ يؤسس لديكتاتوريته، عبر المبرر الذي سانده به الاتحاد الأوروبي، وهو صراعه مع حركة النهضة التونسية بزعامة الشيخ راشد الغنوشي، ذات الأيديولوجيا الإسلامية، وحظره المستمر لحزب العمال الشيوعي التونسي، واعتقال كوادره ووضعهم دوما تحت الضغط الأمني المستمر.
صحيح أن حركة النهضة كان لها وجود ليس قليلا، لكن تصويره صراعا قويا، كان يشكل غطاء لإعادة تأسيس ديكتاتورية نسبية، حيث أن بن علي بقي فترة أكثر من عقد من الزمن رئيسا، من دون أن يكرس هذا الأمر دستوريا وتعدديا، ولو من الباب الشكلي، لذا ‘أقام أول انتخابات تعتبر قانونيا تعددية سنة 1999 بعد ما يربو على 12 سنة من استلامه للحكم وصفت بأنها انتخابات تعددية، لكنها تكرسه رئيسا، ثم أعقبها بتعديل دستوري بالفصلين 39 و40 من الدستور ليبقى رئيسا من دون تحديد زمن للمنصب الرئاسي، ومنحه الحق في الترشح لانتخابات دوما، أي إعادة انتاج ديكتاتورية محدثة ومدى الحياة، وهنا كانت سقطة النظام الأولى الدستورية والحقوقية والسياسية.
هذا الرسم الأولي لخط الرئيس بن علي في السلطة، يوضح جملة حقائق لا بد لنا من التعرض لها، إنصافا للرجل وتحقيقا للتاريخية في تعاملنا مع الظواهر السياسية:
أولا- بن علي وضع تونس، في ما أسميه أنا دوما، عتبة الديمقراطية، كثير من العلمانية والمدنية، وقليل من الحرية السياسية المقوننة. هذه نقطة أولى تحسب للرجل.
ثانيا- إطلاقه العنان للعمل المدني والحقوقي في سنوات حكمه الأولى جعلت المجتمع المدني السياسي التونسي يسترد عافيته، وبدأت تتشكل منظمات عديدة معنية بالعمل المدني والحقوقي، وهذا بالتأكيد يعطي مزيدا من تجريب الحرية بالملموس العياني للبشر، وانعكاس ذلك على وعي الحرية في عقول الناس.
ثالثا- الرجل ولو من باب شكلي تعرض لمنافسة انتخابية دستورية، وكان لديه منافسون معروفون في انتخاباته الرئاسية، وهذه أيضا كان لها صدى ومعنى مختلف عما كان عليه الحال في النظام السابق.
رابعا- كرس الرجل جملة قوانين جديدة حدت من تدخل الدين بالدولة، وعزز مكانة المرأة قانونيا، هذه المكانة التي أسس لها الرئيس الحبيب بورقيبة.
رابعا- نما الاقتصاد التونسي طردا مع نمو الحريات لدى النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، نمو الاقتصاد التونسي قبل أن ينخره الفساد العائلي للسلطة، جعل تونس تحتل مواقع متقدمة في مؤشرات التنمية في دول العالم، واستفاد من دعـــم أوروبي ملحوظ لأسباب معروفة، ربما نتطرق لها في مقال لاحق.
إن نمو الاقتصاد بعيدا عن سيطرة قطاع الدولة عليه، وهذه قضية أيضا أسس لها ليبراليا بالمعنى الاقتصادي الحبيب بورقيبة، ولكن فضاء الاستثمارات التي جاءت إلى تونس كان لنظام زين العابدين بن علي فضل فيها. وتحولت تونس إلى بلد للأعمال ومن أهم بلدان أفريقيا سياحيا.
أما ما يؤخذ على الرجل فبات معروفا للجميع، محاولته الاستئثار بالسلطة مع عائلته إلى الأبد، وهذا ما شجع الفساد المالي والسياسي في سلطته، وكانت النتيجة هي حرية تونس، ولكن هذا لا يعني أن ما تتيحه ممارسة السلطة من فساد، أن كل من يأتي إلى السلطة يصبح فاسدا، خاصة إذا كانت الرقابة الجماهيرية والحزبية والمدنية قد تقدمت قليلا، وهذا ما حدث في تونس. بينما في سورية وبعض بلدان المنطقة الفساد صار هو مؤسس النظام، ولم يأت الفساد عليه من الخارج، وكنا بحثنا هذه النقطة كثيرا، رغم أن هنالك من يقول بأن القيادة السورية تحاول مكافحة الفساد، الفساد المستشري في سورية يحتاج إلى ديكتاتورية استثنائية، وليس ديكتاتورية محدثة كما حاول أن يصيغها بن علي في تونس.
وبالتالي المقارنة تحمسا مع الوضع السوري، هي مقارنة مجافية للحقيقة والوقائع.
تونس لا يوجد فيها حزب قائد للدولة والمجتمع، كما لم يعد فيها استفتاء على منصب الرئاسة لمرشح وحيد، وسورية تخلو من أي اعتبار للعمل المدني والحقوقي دستوريا وسياسيا وأمنيا، تونس كانت فيها انتخابات رئاسية، وشكليتها لا تمنع فعلها في معارف البشر وإدراكهم للحرية. تونس فيها قانون أحزاب، وفيها تنافس حزبي بين شرائح الطبقة البورجوازية الملتصقة بالنظام وغير الملتصقة به، في سورية كما أنه لا يوجد قانون للإحزاب، أيضا لا توجد طبقة بورجوازية بالمعنى الموجود في تونس لأسباب تاريخية تتعلق بنشأة النظامين السياسيين في البلدين.
وكما أشار أيضا الصديق صبحي حديدي في مقالته التي عقد فيها المقارنة بين وضع الجيش التونسي ووضع الجيش السوري، هنالك فوارق أساسية جعلت الوضع التونسي مختلف تماما، وهذا ما أكد عليه الباحث الأمريكي المقرب من النظام جوشوا لانديس، عندما أكد ان كون الجيش السوري بات متماسكا لاسباب معروفة فمن الصعب أن يكون له موقف كموقف الجيش التونسي.
نقطة اخرى في المقارنة، تونس ليست من دول الطوق الفلسطيني- الإسرائيلي كحال سورية بحيث يكون لتل أبيب رأي وفعل في أي متغير في هذا البلد.
لهذا المقارنة أيضا من زاوية أن كل الأنظمة العربية واحدة في مضمار تعاملها مع مجتمعاتها هو أمر مجاف للحقيقة، ودوما نرى إعلام بعض السلطات العربية هو من يبشر ويركز على هذه النقطة، وهي نقطة خطيرة جدا، بحيث يصبح مؤشر المدنية والحرية في تونس مثله مثل سورية وهذا لم يكن يوما صحيحا.
وفي النهاية لا خوف على تونس من بن علي آخر، لقد شبت تونس عن الطوق، وشعلة البوعزيزي الذي أحرق نفسه أصبحت جزءا من تاريخ الحرية في تونس المستقبل.
‘ كاتب سوري
تونس على الطريق
غسان المفلح
“يحكم الرئيس الحالي زين العابدين بن علي البلاد بما يسميه البعض قبضة أمنية حديدية منذ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، عندما أطاح في انقلاب سلفه الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية بعد الاستقلال عن فرنسا سنة 1956. وعبر مراقبون عن دهشتهم من الصمت المطبق الدولي الذي رافق هذه الاحتجاجات رغم تواصلها منذ 12 يوما وتوسعها لمدن وولايات عديدة في كامل البلاد، بعد مقتل متظاهر وجرح آخرين في منزل بوزيان بولاية سيدي بوزيد قبل أيام” وقال الحقوقي والمعارض التونسي المعروف المنصف المرزوقي أن “نظام بن علي يوفر لأوروبا قاعدة خلفية لفقراء القارة العجوز تخفف الضغط عنها ” في إشارة إلى الأعداد الهائلة التي تستقبلها تونس من السياح الأوروبيين بأسعار زهيدة جدا مقارنة بباقي الوجهات المتوسطية، كما تحمي أوروبا من تدفق المهاجرين غير الشرعيين من أفريقيا ما وراء الصحراء.
واجه الرئيس زين العابدين بن علي، انتفاضة ضخمة يقودها شباب بلا عمل بولاية سيدي بوزيد، شباب ثار على تردي أوضاعه الاجتماعية، خصوصا بسبب ارتفاع نسبة البطالة والتهميش وتضييق السلطات الأمنية على بعض التجار، الذين يعرضون سلعهم على أرصفة الطريق، لكن النقابيين يقولون إن المطالب أكثر من ذلك، تتعلق خصوصا بغياب العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة.
المتظاهرون يصفون النظام بـ عصابة السراق ، كما أفادت مصادر تونسية لصحيفة وقت الجزائر.
إن أساتذة ونقابيين وتلاميذ ثانويات شاركوا في المظاهرات، التي انطلقت، منذ اسبوع، ورفعوا شعارات تندد بالفساد الحكومي والمحسوبية في توزيع فرص العمل على أبناء الجهة، إضافة إلى التهميش واستشراء البطالة والفقر في سيدي بوزيد. ومن الشعارات التي رفعوها وكرروها” التشغيل استحقاق.. يا عصابة السراق” ما يمثل تلخيصا جليا للاتهامات المتصاعدة وتنديدا واضحا من الشباب التونسي وإدراكه بأن نظام الرئيس بن علي يستغل النفوذ والسلطة لخدمة مصالح أقربائه وأصهاره ووضع ثروة البلاد تحت تصرفهم . أربع انتفاضات شعبية شهدتها تونس في ظرف سنتين، الأولى التي انطلقت في بلدة الرديف بمحافظة قفصة، وفريانة بمحافظة القصرين سنة 2008، وأفضت المواجهات بين سكانها وقوات الأمن إلى سقوط قتيلين ومئات الجرحى والمعتقلين،أفضت لسقوط أول ضحية برصاص حي، وهو الشاب محمد لعماري الذي لا يتجاوز ثماني عشرة سنة، وجرح عشرة آخرين في مدينة منزل بوزيان المحاذية لسيدي بوزيد.
من الصعب تلخيص ما يجري على الأرض في تونس مما تناقلته وسائل الإعلام، رغم أن الرئيس بن علي قد خرج من خلال خطابه الأخير على المواطنين كعادة النظم العربية، بفتاوي أنها حالة شغب ولا تخدم القضايا الوطنية التونسية وخاصة قطاع الاستثمار عموما والسياحي خصوصا، وكأن الاستثمارات تأتي ليس للحد من البطالة والفقر وإنما من أجل أرباب الفساد والمافيا، كما أشارت تسريبات ويكليكس، نحمد الله كما يقال! أن تونس لا يوجد فيها مشاكل عرقية أو طائفية، لكنا الآن أمام وضعا عراقيا أو سودانيا جديدا، الفارق هنا أيضا، أن الرئيس بن علي مرضي عنه غربيا من جهة، ويرفعون شعار علمانيته بالطبع لتبرير تخاذلهم مع الحرية والديمقراطية التونسية من جهة، ولمصالحهم من جهة أخرى، لكن الرئيس السوداني عمر البشير، رئيس مكلف من الله، ويهدد بتطبيق الشريعة الإسلامية في حال انفصل جنوب السودان وهو بذلك يخدم قضية حق تقرير المصير للجنوب السوداني، أو الانفصال كما يراه بعضنا كعرب. أي قادة ابتليت بها شعوبنا في العالم العربي؟!
علمانية السيد بن علي لا غبار عليها، فهي توجه ضابط استخبارات سابق لمدة طويلة وعنيد ويعرف ما يرضي الغرب، لكن ليس هو مؤسسها بل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي انقلب عليه بن علي، هو من أسس للحالة المدنية في تونس، مع ذلك استبشرنا خيرا عندما أقر الشعب التونسي، دستورا يفضي بالتعددية، وتحديد ولاية الرئيس، لكن الرجل سرعان ما انقلب على دستوره، كما يفعل أي نظام عربي، ومع ذلك تسجل للنظام مساحة الحرية المقوننة التي تمت بعد مجيء بن علي، اقله بتنا نجد منافسين حقيقيين على منصب الرئيس الذي يحاول بن علي أن يقتدي بأصدقاءه في سورية وبقية البلدان الملكية من أجل توريث الحكم الجمهوري لصهره أو ربما لابنته. وموقف الغرب وتواطؤه ليس جديدا، والملاحظة التي يمكن إيرادها هنا، ان وسائل الإعلام الغربية غطت انتفاضات اليونان كعضو في الاتحاد الأوروبي بشكل شبه تفصيلي ويومي كما غطت التظاهرات ضد حكومة الرئيس ساركوزي صديق الديكتاتوريات وحامي حماها عندنا في المنطقة الشرق أوسطية ما عدا إيران المتشدد حيالها تبعا لمطلب إسرائيلي أيضا! أما الشعب التونسي فهو من عالم آخر، ولا يستحق تغطية مطالبه العادلة! لهذا تشكر قناة الجزيرة على تغطيتها القوية للحدث.
هنالك مؤشر على فرح الإسلاميين بما يجري في تونس، فرح واضح لدى كل التيارات الإسلامية في العالم العربي، وحتى أن بعض منابرهم توحي وكأن الحركة لها طابع إسلامي.. لكننا نعتقد أن النقابات هناك ومن كل التيارات السياسية قد شاركت بالانتفاضة، ولم يكن لها أية صبغة إسلامية، لا من خلال تنوعها ولا من خلال شعاراتها، التي أكدت على فساد النظام وتغييره لأنه فاسد ماليا ويساهم في إفقار البلاد، وليس لسبب آخر.
الفساد المالي وراء خراب الدول، وهذا الفساد مجرد ان يتمكن من أي نظام سياسي، فإنه يصبح هو النظام، أما الأشخاص المتواجدين فيصبح همهم استمرار الفساد، والخوف من التغيير كي لا تنقطع عنهم الأموال الفاسدة التي تتوفر لهم جراء وجودهم في مواقع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عمولات ورشاوي وسمسرات بلا حسيب أو رقيب، وكأن البلدان مزرعة ورثوها، وهم يعرفون جيدا أن كل قرش فساد يكون على حساب الشعب، ويزيد من البطالة والفقر لشرائح شعبية متزايدة. لهذا يمكننا فهم جانب مهم من جوانب عمليات التوريث في العالم العربي.
لا نعرف ما سيقوله العلمانيون الجدد عما يجري في تونس؟
إن ما يسجل للنظام التونسي، من حرية مقوننة رغم استمرار الحضور الأمني لأجهزة العنف في الدولة ودورها، مثل قانون أحزاب وعدم احتكار مؤسسة الرئاسة بالاستفتاء كما يجري عندنا في سورية، هي التي ساهمت فعليا بأن تعي الناس حقوقها أكثر وتخرج سلميا للدفاع عنها، ولهذا شهدت تونس أربع انتفاضات يمكننا تسميتها انتفاضات خبز ومزيد من الحرية والقانون وتكافؤ الفرص ساسيا واجتماعيا واقتصاديا.
إن الحل الأمني لم يعد يفيد مع الشعب التونسي، وإن استفاد منه النظام مؤقتا، وأعاد الاستقرار لللبلد كما يقول من أجل استثماراته واستثمارات شركاءه، لكن الحرية عندما تبدأ لا تتوقف أبدا.
لنر من سيحاسب من أسقط ضحايا الانتفاضة التونسية جراء التدخل الأمني العنيف؟