الانتصار التونسي يقول كفى للقتل الطائفي
عمّار ديّوب
ليس في تونس مسألة طائفية مطروحة، وليس من توظيف سياسي فاعل للدين، ولكن هذين الموضوعين مطروحين في كل العالم العربي، وهو يئن تحتهما، جوعاً وإذلالاً وبيوت صفيح واضطهاداً دينياً. ولأن كل هذه القضايا وغيرها تسيّج عالمنا وتتداخل مع بعضها البعض، فإن قراءتي لما يجري في تونس، جاءت لإبانة دور الطائفية في “تخنيع” الشعوب العربية، وإخافتها من التمرد.
أن يتفجر الوضع في تونس، لأسباب معيشية بحتة، وعبر عمليّة “استشهادية” مأساوية بحرق شابٍ لجسده وصعق أخر لنفسه، وإجهاز قوات الشرطة “الباسلة” على العشرات من “المواطنين”… وتتالى الأحداث لذات الأسباب في الجزائر، فهذا يعني أن الأحداث الطائفية أحداث سياسيّة بامتياز، ودور الدين فيها شحيح، ومن موقع المُتكأ عليه والمتأثر أكثر من موقع الفاعل. وهدفها منع الصراع المجتمعي من البروز، وأن الواقع العربي وصل درجة التأزم الشديد، وصار يتطلب تغييراً شاملاً في السياسة والاقتصاد والدين وحتى في طاقم الزعماء الخالدين…
إشاعة الصراع الديني-الطائفي كصراع رئيسي، هو سياسة رأسمالية تافهة بحق، ولكنها سياسة قاتلة ومبيدة لمجتمعاتٍ لم يصل مستوى التناقض الاقتصادي فيها أوجه، وحركاتها السياسية حركاتٌ هزيلة وغير ذات فاعلية، ومنظماتها الدينية منظماتٌ ممولة جيداً، ودور الدولة العربية في تصعيد تلك الإشاعة معروفاً، ولذلك هي دولة دينية في جانب منها، ولا تزال بعيدة عن الدولة الحديثة المواطنية. الثورة التونسية الشعبية، وسقوط شهداء الجوع والعمل والجامعات، هي بدايات مشجعة لإيقاف الكذب الطائفي، وإنذار لطي صفحة الطائفية- في أكثر من بلد عربي- التي هي جملة سياسات وإجراءات تستند إلى الدين ولكنها تخدم مصالح فئات عولمية أو سلطوية أو منظمات إرهابية خُلقت وتم تصنيعها من قبل دول عظمى ودول معروفة تماماً، وخدمتها شروط موضوعية، وهي محدّدة بأزمة المشروع الماركسي والقومي والحداثي بالعموم، مما دفعها لتتمكّن وإحراز المواقع الواحد تلوَ الآخر، حتى أصبحنا نعتقد إن التاريخ الحالي دينيٌ بشكل قار وحافلٌ بالتصفية على الهوية، وهو ممتد في مغارب الأرض ومشارقها!
تونس الثائرة، دفعتنا للتريث، والتفكير مجدداً بمشكلات البشر الواقعية: الفقر والأجور الزهيدة والغلاء الجنوني والموت حرقاً وصعقاً وعدم وجود فرص عمل وغياب الفكر الحر وقيم العدالة والمساواة والمواطنة. القيم الأخيرة هناك ضرورة لإعادة تبنيها في إطار مشروع مجتمعي، لا يفرّط بالعدالة لصالح الحرية ولا يثمّن الحرية ويسقط العدالة. القيمتان متكافئتان في الأهمية، وبدون تآزرهما، سنكون كالعميان حيث لا طريق معلوم نمشي عليه، كما كنّا!
هل تفجر الصراع المجتمعي يوقف الصراع الطائفي؟ أقول لن يوقفه، فهو مطلوب بإلحاح، فالقوى النافذة لم يعد لديها شيء تبرّر فيه إستمراريتها، فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية تتعاظم، وهي سلطات ناهبة وليست فاسدة فقط، ولذلك ستعمل قوى الأمر الواقع على تسخير الدين بشكل مستمر، وسيكون هناك ألف فتوى وتحريم وتكفير لإغلاق وسد منافذ الصراع المجتمعي الصاعد!
وحثيثاً، نسأل هل الصراع الطائفي بلا أساس، برأيي إنّه صراع له موجبات، وهي محدّدة بفشل مشروع الحداثة عن إبعاد أطماع رجال الدين كليّة عن لعب دور سياسي، وتسخير رجال المال لهم، بعد تضررهم من قيم الليبرالية المتجهة نحو مزيد من التعمق في قيم الحرية والمساواة، وبروز الحركات الماركسية كتعميق لها وبصورة متماسكة وفاعلة، ولذلك أٌعيد الدين إلى الواجهة وعاد رجاله يمارسون سياسة المحافظة و التكفير والقتل المعنوي قبل الإفناء الجسدي.
في بلادنا المنكوبة، بأنظمة النهب، والتي لم تَلج مرحلة الحداثة العميقة، حيث الاقتصاد الصناعي والتعليم العلماني والديمقراطية كنظام سياسي حديث، فإنّ الدين بقي عامل تفرقة، وهو مصدر رئيسيّ في كل الدول العربية للقوانين وللتشريع سيما في مجال قانون الأحوال الشخصية، والذي يعني بكل بساطة، أنّ هناك طائفة مهيمنة بسلوك وممارسات وعلاقات وأفكار أفرادها على بقية أفراد الطوائف الأخرى أو غير المؤمنين، وهذا الأمر جارٍ وحادثٍ ومأساوي، وهو يدمي ويلغم المجتمعات بجدران من الديناميت القاتل والقابل للتفجر في أية لحظة.
تسيّدت العراق بعد الاحتلال الأمريكي له، فئات قليلة من معارضات الأمس الطائفية والشوفينية أو منظمات الإرهاب بالمجتمع. وتشكّلت معارضة جديدة لها، ولكنّها ذهبت نحو الطائفية القاتلة وخلقت منظماتها المجرمة، ولو لم تكن فرق الموت تلك”الشيعيّة والسنيّة” هناك بمؤازرة منظمة القاعدة “الدولية”، ربما لتشكّلت مقاومة وطنية، وربما لانعكست موجة وطنية على العالم العربي برمته؛ قوى حديثة ومناضلة ضد أنظمة تخاذلت عن دعم الشعب العراقي في معركته الوطنية ضد الاحتلال الأمريكي والصهيونية وأنظمة النهب. ولكن تحكّم تلك الفئات بوضع العراق، حوّل ذاك البلد إلى بلد التصفيات الدينية المرعبة، ووصل الأمر حدود التفرغة المناطقية من أفراد الديانات المختلفة فصارت مدن وحارات وقرى العراق نقية الدين وصافية العرق. وإماراتها الدينية تتعدد بتعدد فنون القتل والتصفية، ويتنافس في ذلك أمراء الدماء الظلاميين، وكل واحد منهم يريد إثبات براعته في فنون القذارة تلك، وبذلك دُمّر العراق ثانية بعد أن دمّرت أمريكا الدولة واحتلته، فتراجعت حركات المقاومة الوطنية. ولم تستطع احتجاجات النقابات والفقراء إيصال صوتهم، ومطالبهم بالخبز والمازوت والأجور والتعليم والكهرباء والهاتف. وغلّفت بالواجهة الطائفية، وصارت مطالبهم تافهة مقارنة بمطالب الجنة. ووصلت الخفّة في التاريخ، بإخراج كافة المسيحيين من العراق إلّا قليلا منهم، وهم يتحينون الفرصة المناسبة لوداع أرض الرافدين، وهذا يتم تحت سمع الأمريكان وللدقة بسببهم، فهم قوى احتلال أولاً وأخيراً.
القتل الطائفي فُتح في مصر بعد العراق بختم القاعدة”الأمريكية”- في بداية هذا العام- التي فعلت ما فعلت في العراق؛ مصر التي لم تتوقف فيها الاحتجاجات المجتمعية منذ 2006، ورفض المصريون هذا الفتح الكارثي. الثورة المظفرة، نجحت الآن في تونس، فهل يٌفتتح فصلٌ جديد، من تاريخٍ عربيّ لم تتطوّر فيه الوقائع مرة واحدة نحو حداثة متكاملة. يحدونا الأمل هذه المرة من تونس ؟!