دروس تونس!
نايف سلّوم
تقدم الاحتجاجات الاجتماعية التونسية المتتابعة على مدى أسابيع دروساً عدة وعلى مستويات غاية في الأهمية بالمعنى التاريخي وعلى مستوى المنطقة العربية تحديداً .
وأول هذه الدروس هو أن احتجاجاً شعبياً سلمياً متعاظماً ضد التهميش الشعبي والجهوي ، والفقر والبطالة خاصة قطاع الخريجين الجامعيين ، وضد الاستبداد السياسي وغياب الحريات أجبر نظاماً مستبداً ، محتكراً للسلطة والثروة وعلى رأس الاحتكار عائلة وأقارب الرئيس بن علي أن يتنحى وأن يطرح كبديل وبشكل متدرج ومتتابع حكومة وحدة وطنية ثم حكومة إنقاذ وطني خالية من الحزب الدستوري ثم جمعية تأسيسية . هذا التحرك الداخلي دحض بالمطلق المقولة الليبرالية الجديدة ذات النزعة الأميركية التي تقول بأن التغيير الديمقراطي في بلدان تعاني من الاستبداد السياسي ومن احتكار الثروة الوطنية تحتاج إلى تدخل إمبريالي أميركي لتغيير نظمها . الدرس التونسي افشل في أربعة أسابيع ما حاول مفكرون وكتاب تقدميون دحضه في سنوات 1999-2003 عبر آلاف المقالات والتصريحات. حقاً وكما قال لينين في مناسبة الثورة إن هذه الأخيرة تعلم في يوم ما تعلمه الأحزاب والحياة اليومية في عقود. إن نزعة التدخلية الإمبريالية بحجة إحداث تغيير “ديمقراطي ” في بلدان تعاني الاستبداد السياسي قد لاقت حتفها أمام الانفجار الاجتماعي التونسي.
ما من شك أن إسقاط نظام صدام حسين عبر التدخل الإمبريالي الأميركي وما نتج عنه من احتلال عسكري ترك صدى ما لدى الشارع التونسي . لقد أيقنت الجماهير التونسية والشعب التونسي أن الديمقراطية بمعية الإمبريالية الأميركية والأوربية خديعة كبرى غرضها احتلال البلد المعني وإذلال شعبه ونهب خيراته.
لم يفعل رفع شعار الديمقراطية”الخالص” الأميركي سوى توحيد الليبراليين الرجعيين في المنطقة العربية مع أسيادهم الأميركيين من الليبراليين الجدد وغيرهم في النظام الإمبريالي الرأسمالي.
أما الدرس الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول فهو ما عبرت عنه صورة مواطن أردني خرج بعدوى الاحتجاجات التونسية ليعبر عن الغلاء المعيشي والإفقار وغياب الحريات السياسية ، وهو يحمل بيده رغيفا ممزقا ، والوعظ السلفي الديني يطارده و يهتف في أذنه: لا يجوز التظاهر والخروج على الحاكم من أجل رغيف. ومع ذلك تابع هتافه وتنديده بالحكومة ..
إنه المدى الأقصى للحركات السلفية والأصولية في تأثيرها على الشارع العربي والشعوب العربية. لقد جربت الأصولية الدينية بكافة أشكالها التأثير على الجماهير العربية المحبطة لتحرف تحركاتها الاجتماعية باتجاه سماوي ، وهاهي احتجاجات تونس العارمة تبطل مفعول الأصوليات الدينية في المنطقة العربية.. لقد دشنت الاحتجاجات الاجتماعية السياسية التونسية نهاية المد السلفي الديني في المنطقة العربية وأسست لانطلاق الاحتجاجات الاجتماعية في الأقطار العربية. واستبدلت عنفاً سلفياً مميتاً ومجانياً بعنف جديد مقتصد ، فعال ومنتج.
إن تعمق وانتشار سياسات التحرّر الاقتصادي والمالي (1990-2010) وما تركته هذه السياسات الليبرالية الجديدة من آثار سلبية وكوارث اجتماعية في العالم العربي قد بلغ حداً لا يمكن الاستهانة بها. حيث أدت إجراءات المؤسسات المالية الدولية و”نصائحها”(أوامريتها) إلى التحول الهيكلي في اقتصاديات البلدان المتخلفة ومنها الاقتصاديات في الأقطار العربية ، وما رافقها وما جرته من أعباء اقتصادية اجتماعية . وقد وقع عبء التعديل البنيوي (التحول الهيكلي) على عاتق الفئات الشعبية بشكل حصري، بينما وفي نفس الوقت وُلدت فئة جديدة من رجال الأعمال الكبار المقرّبين من المسؤولين السياسيين والذين راكموا ثروات هائلة من وراء عمليات الخصخصة، وتحرير التجارة الخارجية والأسواق الداخلية، وزيادة الفوائد المصرفية إلى مستويات غير مسبوقة، والتعامل مع الشركات المتعدّدة الجنسيات كوسيط (كومبرادور) بينها وبين الحكومات المحلية خلال تدفّق الاستثمارات الخارجية وعمليات الخصخصة. وخلال مدّة قصيرة انقسم العديد من المجتمعات العربية انقساماً حاداً بين قلّة من المستفيدين من الأوضاع الجديدة وطبقات وسطى تدنّى مستوى معيشتها إلى حدّ بعيد، (وهم موظفو القطاع العام وغالبية موظفي القطاع الخاص). وكذلك فئات واسعة من الطبقات الفقيرة التقليدية سواءً في الأرياف أو في المدن، مع زيادة الهجرة من الأرياف إلى المدن والعيش في أحزمة بؤس محرومة من أي نوع من السكن اللائق و من الماء والكهرباء. وكان لهذا الوضع المتفجر أثر سياسي بليغ ظهر في انتشار أنواع مختلفة من الأصوليات الدينية والمذهبية التي لعبت دورا في استيعاب النقمة الشعبية ونقمة الطبقة الوسطى أمام هذا التردي لمستويات المعيشة. وقد وصل هذا الخيار (خيار النكوص السلفي) إلى حدوده القصوى وجاء أوان الخيار الاجتماعي- الاقتصادي غير المشوش من قبل الصراعات المذهبية، كخيار حقيقي وفعال أمام الشعوب العربية المنهوبة والمهمشة. والدرس الهام هنا هو أن هذه التحولات الهيكلية والانصياع لبرامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (الأذرع المالية للإمبريالية) ، والتخلي عن مصالح الشعوب العربية مآله بالمحصلة ما جرى في تونس ، وما يجري في الجزائر ومصر واليمن والأردن ، الخ..
الدرس التونسي الثالث أن النظم الاستبدادية المحتكرة للسلطة والثروة لن يسعفها الوقت إذا لم تبادر لإجراء إصلاحات فورية سياسية واقتصادية حقيقية ، خاصة وأن شعب تونس قدم درساً من القوة لدرجة أحست به ليس النظم المستبدة فحسب بل النظام الإمبريالي عبر صمته المخزي وتواطئه مع مضطهدي الشعوب المفقرة والمغلوب على أمرها . هذا ما ظهر من موقف النظامين الفرنسي والأمريكي تجاه الوضع التونسي المتفجر. فقد اكتفت وسائل الإعلام الفرنسية بتقارير عامة عن أحداث سيدي بوزيد، كذلك اكتفت منظمات حقوقية تتخذ من فرنسا مقراً لها، مثل الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ببيان يطالب الحكومة التونسية بـ”الإفراج عن المعتقلين … وتشكيل لجنة محايدة لتقصي الحقائق المتعلقة بهذه الأحداث”. وفي الأيام الأخيرة ، وبعد تعقد الأوضاع واتساع الاحتجاجات، والخطاب الأخير لابن علي الذي أظهر فيه استعداده لمطلب الحرية والديمقراطية والتشغيل للعاطلين ، قالت الخارجية الفرنسية بوجود استخدام غير متكافئ للعنف..وأخيراً تكلم الناطق باسم الخارجية الأمريكية بقوله : إن من حق الشعب التونسي اختيار قادته..
الدرس الرابع في أحداث كهذه هو أن الاستبداد السياسي وإنهاك القوى السياسية الشعبية التوجه وتشتيتها ووجود معارضة رسمية متشاركة مع الحكومات توحي بوجود تعددية سياسية ، أعطى الانطباع بأن الاحتجاجات الشعبية من دون رأس أو قيادة . إلا أن واقع الحال أظهر سرعة التحام الأحزاب المعارضة مع التحركات الشعبية في الشارع ، إضافة إلى ظهور لجان محلية وتنسيق فوري بين قوى سياسية ونقابية وحقوقية من مشارب شعبية وسياسية مختلفة.
لكن الأمر المثير للاهتمام هو موقف الجيش التونسي من الاحتجاجات . فقد رفض الجيش التونسي الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين والمحتجين ، واعتقل بعض أفراد عائلة بن علي وأقربائه. مع ملاحظة أن قيادات هذا الجيش كانت تدربت في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية لقد عمل النظام في تونس وعلى أثر الأحداث على حياد الجيش بنصيحة أميركية فرنسية و وتفكيك الأمن الرئاسي و التضحية بالرئيس وعائلته وأقربائه لامتصاص الغضب الشعبي .
على الشعب المنتفض وقواه السياسية النظر بإمعان إلى سلوك الجيش. وما لم تتابع الانتفاضة الشعبية تحركها لكنس النظام بالإجمال والتحضير لجمعية تأسيسية [البيـــان التأسيســي لجبهـــة 14 جانفـــي/ يناير*] تشارك فيها كل القوى السياسية التي تعبر عن طموحات الشعب المحتج والمنتفض السياسية والاقتصادية لن تكون قد بلغت غايتها المنشودة.
* تتألف جبهة 14 جانفي من:
1- رابطة اليسار العمالي
2- حركة الوحدويين الناصريين
3- حركة الوطنيين الديمقراطيين
4- الوطنيون الديمقراطيون (الوطد)
5- التيار البعثي
6- اليساريون المستقلون
7- حزب العمال الشيوعي التونسي
8- حزب العمل الوطني الديمقراطي
خاص – صفحات سورية –