ثورة تونس

“ثورة الياسمين”!

منصور الأتاسي
أنجز التونسيون المرحلة الأولى من ثورتهم بإسقاط النظام الظالم والمجرم, والمطلوب الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي إيصال ممثلي الشعب القادرين على تنفيذ المطالب الشعبية التي أطلقتها الثورة، من معالجة مشكلة البطالة وإنهائها ووقف الفساد وإعادة الأموال المسروقة من قبل المتنفذين وأقربائهم إلى خزانة الدولة. وتأمين توازن بين الأجور والأسعار يساهم في تأمين الحياة الكريمة للكادحين. ودعم القطاع العام. وإنهاء الاستبداد والنظام الأمني وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة السياسيين المبعدين والموجودين في الخارج إلى بلادهم، وإعادة الحقوق المدنية لألوف السياسيين المعارضين.. إن الشعارات والمهام التي أعلنتها القوى المحتجة ودفعت عشرات الشهداء في سبيل إنجازها هي بطبيعتها توجهات ذات طبيعة تقدمية تنسجم مع الطبيعة الطبقية للقوى والفئات الاجتماعية التي فجرت الثورة وأنجحتها.
إننا نعتقد أن تنفيذ هذه المهام سيمر عبر صراعات سياسية كبيرة. فهناك الكثير من القوى السياسية والفئات الاجتماعية التي لم تشارك في النشاط الجماهيري ستحاول الانقضاض على السلطة وحرمان الفئات السياسية التي ساهمت ودفعت للانتفاضة الشعبية منها .. ولكننا نرى بالمقابل أن الأمور فتحت بشكل ستكون القوى التقدمية قادرة على تأمين التغيير الاجتماعي المطلوب في الظروف الجديدة. وهذا يتوقف على قدرة جميع القوى ذات المصلحة في التغيير عبر التجمع ووضع برنامج جدي، والتعاون للانتقال إلى المرحلة الديمقراطية بما في ذلك إطلاق الحريات السياسية, واتخاذ تدابير اقتصادية تنسجم وتنفيذ المطالب التي ذكرناها.
نقول ذلك لأن المحيط العربي الرسمي والجوار الأوروبي قلق جدا من التطورات الحاصلة في تونس وهو سلوك متناقض مع مجمل السياسات المعتمدة في هذه الدول. وهي من ناحية أخرى تتناقض مع التوجهات الصهيونية الأمريكية العاملة على الانتقال بهذه الدول إلى كيانات ضعيفة ومتقاتلة وتابعة لإنهاء أي قدرة عند الشعوب على مقاومة النهب الوحشي لثروات المنطقة.
إن العوامل التي أدت إلى نجاح التحركات الشعبية هي :
1″- الطبيعة المقدامة للشعب التونسي التي هي انعكاس لطبيعة الشعوب العربية, ولكنها تعكس أيضا روح الإقدام التي تحلت بها الحركات والأحزاب والتيارات التقدمية الحقيقية في تونس.
2″- الانتقال الواعي والتدريجي من المطالب ذات الطبيعة المطلبية الطبقية إلى المطالبة بالتغيير السياسي، مما أدى إلى إرباك السلطة وإسقاطها..
ونعتقد أن نجاح الثورة كان بسبب تحقيق عاملين من العوامل التي تؤدي إلى نجاح أي ثورة. الأول، عدم قدرة الشعب على الاستمرار في ظل السلطة القائمة. والعامل الثاني، عدم قدرة السلطة على الاستمرار، و التي سرعان ما انهارت وهرب زعيمها تاركا وراءه حتى أقرباءه الذين شاركوه في نهب البلد.
أما العامل الثالث، وهو الوضع العالمي المواتي فقد حاول على لسان الرئاسة الفرنسية الإبقاء على الرئيس التابع ولكن عندما نجح التغيير، أعلن رضوخه وتخلى عن عميله السابق ورفض حتى استقباله. وأعلن عن حجز أموال رموز العهد السابق إمعانا في التملق للوضع الجديد والتقرب منه.. وهذا ما أعلنته الولايات المتحدة على لسان رئيسها، ثم باقي الدول الغربية. ورغم احتضان السعودية للرئيس المخلوع إلا أنه لا توجد تصريحات مرحبة أو منددة بالتغيير، فالذهول والإرباك وإعادة دراسة الأوضاع العامة هي ما ميزت قادة النظام العربي المتوجسين .
بكل الأحوال فإن العامل الدولي بما فيه العربي سيعمل على استيعاب التطورات ودعم فئات من المعارضة تنسجم مصالحها مع تطور العلاقة مع الغرب. وإذا لم تنجح فإنها ستسعى لتشجيع اضطرابات تربك النظام الوليد.
وبالمقابل فإن رد الفعل الشعبي والعالمي كان واضحا ومؤيدا للتغيير في تونس. فقد تظاهر الألوف في الجزائر ومصر والأردن. والعديد من الدول العربية تأييداً للتغير, ورأت المعارضة الكويتية في البرلمان أن التغيير أمر ضروري ويشكل إشارة البدء في المنطقة, ويطالب المتظاهرون في مصر والأردن والجزائر برحيل الأنظمة المهترئة. واستجابت بعض هذه الأنظمة لمطالب الجماهير في القسم المطلبي وخفضت أسعار المواد الغذائية، وعملت على زيادة بعض الرواتب، الخ.. في محاولة للهروب من الاستحقاق السياسي. وأيضا فقد سارت مظاهرات أمام سفارات تونس في فرنسا وغالبية الدول الأوروبية، مؤيدة للانتفاضة ومنددة بأعمال الإجرام التي ارتكبتها سلطات النظام البائد وقتلها للعديد من المتظاهرين الذين كانوا يتظاهرون بشكل سلمي.
– المطلوب الآن أن تكنس الانتفاضة السلطة وكل الأحزاب والحركات السياسية التابعة والموالية لها، بغض النظر عن إدعاءات هذه الأحزاب أو أيديولوجيتها المعلنة. فقد كانت جزءا من لوحة الفساد القائم .
– إن السبب العميق وراء الصدى الواسع الذي تركته الانتفاضة كونها أول ثورة شعبية منتصرة في تاريخنا المعاصر تتم في منطقتنا العربية. ما كان يجري هو انقلابات عسكرية (ثورة من فوق) ، أما الآن فإنها الثورة الأولى التي انتفض عبرها الكادحون وانتصروا (ثورة من تحت) وهذا هام ومفتاحي للمرحلة اللاحقة.
– لقد أسقطت الثورة العديد من المقولات في منطقتنا، والتي روجت لها الامبريالية وما تزال، ووقعت فيها العديد من التيارات السياسية ، بما فيها الحزب الشيوعي العراقي، الخ.. وهي أولا، تلك المقولة التي تدعي عدم إمكانية التغيير من الداخل وبالتالي الاعتماد على العامل الخارجي القادر على تحطيم الاستبداد، وهذا ما برر احتلال العراق مثل هذه التيارات. لقد أظهرت أحداث العراق، أن الديمقراطية حسب التصور الأمريكي هي ديمقراطية المكونات التي أدى تنفيذها إلى دفع الاقتتال بين أتباع الاثنيات والمذاهب والقوميات المختلفة، وإلى مقتل الملايين حسب تعبير الرئيس اللبناني. وتؤكد التجربة التونسية بأن إنضاج العامل الداخلي هو الأساس في التغيير. لذلك فإننا نرى أن إبقاء بعض القوى على سياستها السابقة في الاعتماد على الخارج أصبح انتحارا أو خيانة وطنية, أو أن قادة هذه التيارات فقدوا البصر والبصيرة ولم يعودوا يرون شيئا. بكل الأحوال فإن مقولة الاعتماد على الخارج سقطت بفضل انتفاضة تونس. والمهم الآن العودة للالتصاق بالكادحين وتبني مطالبهم كهدف واضح للتغيير.
– حسمت الثورة التونسية النقاش الجاري حول القوى القادرة على إطلاق الحريات السياسية وبناء المؤسسات كأساس لتطور الدول. فقد اعتقد الكثيرون من الماركسيين العرب وغيرهم أن انجاز المهام الديمقراطية وبناء الدولة تتطلب قيادة البرجوازية لمرحلة الانتقال واعتمدوا دائما على هذا الفهم الميكانيكي للانتقال مقلدين التجربة الأوروبية. ولأن البرجوازية في منطقتنا تابعة للبرجوازيات الكبيرة في أوروبا وأمريكا، ولأن أوروبا لم تسمح ببناء أي نظام برجوازي في منطقتنا وفي كل دول المستعمرات لا بل حاربتها, من تجربة محمد علي في مصر، وصولاً إلى التجربة الإيرانية، فقد فشل العاملون على نشر الحريات السياسية في بلدنا حين ربطوا انتشار الحريات بالنظام الليبرالي، وأوصلهم الفشل إلى تغيير جلودهم وأفكارهم، وإلى الاعتماد على الخارج للوصول إلى السلطة ولو عن طريق ركوب دبابات الاحتلال كما ذكرنا.
ونحن نرى ونؤكد أن التجربة الديمقراطية والحريات السياسية هي حاجة للتعبير عن مطالب المتضررين من الأنظمة القائمة وسلاح بيد هؤلاء للتغيير. فالديمقراطية ليست قيمة فقط كما يعتقد البعض, ولأن المتضررين هم في كامل منطقتنا العربية وبلدان العالم الثالث من الفقراء الكادحين، فإن القوى الحاملة والقادرة على إطلاق الحريات السياسية وبناء المؤسسات هم أولئك الكادحون والعاطلون عن العمل والمنهوبة بلادهم بسبب سياسة الفساد. بالتالي فإن الكادحين هم القوى الطليعية في بلادنا . والقادرون هم وأحزابهم ونقاباتهم الحرة على التغيير الديمقراطي.
أكد انتصار الانتفاضة فشل نظرية أو مقولة أن الأجهزة الأمنية قادرة على فرض النظام والاستقرار وقيادة البلد بسهولة وسلاسة, بغض النظر عن أشكال النهب والفساد التي تمارسها السلطات الحاكمة وأتباعها وحلفائها المختلفين. قد تستطيع الأجهزة الأمنية إضعاف القوى السياسية وإنهاكها ومراقبتها، ومنع أي توسع لها، ولكنها غير قادرة مطلقا على مراقبة كل الشعب. وهذا ما جرى، فقد استطاع النظام الأمني في تونس أن يضعف القوى السياسية المعارضة, ويبعد الألوف إلى خارج البلاد, ويمنع الألوف من الحقوق المدنية, إلا أن كل ذلك لم يجد نفعا. فقد هرب “زعيم” البلاد, واعتقل قادة الأجهزة الأمنية وسيقدمون للمحاكمة أمام القضاء الشعبي العادل.
وعلينا أن نذكر أيضا أن الانتفاضة الشعبية قد سبقت القوى السياسية وفاجأت بعضها. فقد اندلعت الانتفاضة دون أن تكون القوى السياسية مستعدة أو متحالفة أو متفقة على برامج محددة. لذلك فإنه وبعد سقوط النظام لم تتمكن من الاستيلاء على السلطة, واستفادت بعض رموز النظام السابق في امتلاك المبادرة.. وهذا ما يشكل خطورة كما ذكرنا وكما ستؤكد التطورات اللاحقة، إذا لم تستطع القوى الديمقراطية التقدمية العودة لإطلاق مبادرتها.
إن العمل على وحدة القوى ذات التوجهات الواحدة والمتناثرة في فصائل لا حول لها ولا قوة، وتأمين برامج واقعية ووطنية عن طريق ربط الدفاع عن الوطن والنضال ضد الامبريالية ومشاريعها، وإطلاق الحريات السياسية والاتفاق على برامج اقتصادية تنهي حالة الفساد وتأمين حياة كريمة للكادحين، هي مهام مترابطة وأساسية للانتقال إلى التغيير الاجتماعي الوطني الديمقراطي، بالأشكال المتاحة في كل بلد.
وأخيرا لقد أعلن انتصار انتفاضة الشعب التونسي . وصمود المقاومة بداية نهاية العصر العربي، الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي والذي يمكن أن نحدد عناوينه بـــ :
أ- استقرار الأنظمة
ب- الهزائم السياسية المتكررة التي بدأت من كامب ديفد والتخاذل العربي اللاحق, وضعف دور الجامعة العربية.
ج – سيادة ما يمكن أن نسميه العصر الإسرائيلي
د- هزائم التيارات السياسية والفكرية المختلفة, وسيطرة الصراعات ما قبل السياسية من قومجية وطائفية, ودينية, وعشائرية, التي أسست بدورها للانقسامات المختلفة داخل الدول بهدف تحويل هذه الدول إلى كانتونات تمثل الصراعات المذكورة.
ي- تلازم الفساد والنهب للثروات العربية من قبل الحكام العرب مع نهب الامبريالية الأمريكية ، مقابل إفقار الشعوب العربية إلى الحد الذي لم يعد يطاق.
ن- قمع الحريات السياسية، واعتقال قادة ومناضلي الأحزاب ومفكريها ونشطائها أو الضغط عليهم بمختلف الأشكال أو تشجيع انقساماتهم لإنهاء تأثيرهم في الوسط الشعبي، مما أدى إلى نمو التطرف بكافة أشكاله المدمرة
و- العودة للاحتلالات المباشرة بهدف السيطرة المباشرة على الثروات, و البدء بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يحول بلدان المنطقة إلى كيانات طائفية, وقومجية، ومثال ذلك العراق والسودان والصومال ، الخ..
وكان من الطبيعي والمفروض أن يتم تغيير هذا الواقع عن طريق التحركات الشعبية, وكانت الخطوة الأولى هي انطلاق المقاومة في العراق الموجه ضد الاحتلال الأمريكي والتي أدت إلى عرقلة الاندفاعة الأمريكية ..
وأيضا وقبلها كانت المقاومات العربية ضد العنجهية الصهيونية في لبنان وغزة التي صمدت أمام الهجوم الإسرائيلي وحققت أولى الانتصارات في الصراع العربي الإسرائيلي وأسست لبداية نهاية العصر الإسرائيلي.
وكانت تحركات كادحي تونس الخطوة الثانية التي أسست لضرب الفساد والاستبداد ونشر الحريات السياسية وأعلنت عن بداية نهاية الصراعات ما قبل السياسية، تلك التي طبعت الصراعات في فترة التخاذل العربي أو العصر العربي المستسلم .
إن سمات العصر العربي الجديد تتكون وعلينا جميعا العمل على إنجاحها.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى