ماتت المكتبة… عاشت المكتبة الرقمية ؟
سحر بعاصيري
كان على الساعي الى كتاب أو مرجع ان يقصد المكتبة. مكتبة الجامعة أو المدرسة أو مكتبة عامة. وكان عليه ان يذهب اليها في ساعات محددة، ويمضي فيها وقتاً يبحث في فهارس الموضوعات والمؤلفين ثم يجول بين جدران من الرفوف تكدست عليها الكتب والمخطوطات والمجلات والجرائد الى ان يجد طلبه فيستعيره أو يصور أجزاء منه أو يختار الجلوس في احدى غرفها الساكنة يقرأ في حدود ما يسمح به دوام العمل ويلتزم قانون الصمت والهدوء.
هذا الزمن يكاد يولّي.. إنه يتلاشى تدريجاً ومعه يتلاشى المفهوم التقليدي لكلمة مكتبة ليس لأن الانسان يتخلّى عن عشقه للكتاب والمعرفة بل لان “المكتبة” أو أجزاء كبيرة منها صارت ببساطة على مسافة كبسة زر. صار الانسان قادراً بفضل الانترنت على ان يدخل المكتبة ويبحث عن المرجع الذي يريد وقت يريد وفي أي موقع جغرافي كان من أي جهاز كومبيوتر موصول بالانترنت أو أي جهاز صغير، هاتف خليوي ربما، يمسكه بيده، والأهم يقرأ ما يريد مجانا.
المعرفة البشرية كلها في يد الانسان؟ ليس كلها بعد لكننا في الطريق الى ذلك. فالتكنولوجيا الرقمية قلبت كل المفاهيم. بدأت تسقِط عن المكتبات التي عرفتها البشرية لقرون صفة حارس المعرفة وتخلخل جدرانها، مجازياً طبعاً، وتفتح الطريق لزمن حيث قدرة الانسان على الوصول الى ما يريد من مراجع تتجاوز قدرة أي مكتبة تقليدية على تلبيته. وما توفره هو طوفان من المعلومات عن كل شيء تضاف اليه محتويات بعض أهم مكتبات العالم مجتمعة. وما على المرء الا ان يختار.
قفزة هائلة الى الامام في الوصول الى مصادر المعرفة. فهذه التكنولوجيا تقول للعالم عمليا وببساطة: المكتبات التي تعرفونها هي مكتبات الماضي، اما مكتبة المستقبل فهي المكتبة الرقمية. والجدل لا يتوقف في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة خصوصاً في شأن ايجابيات هذه المكتبة وسلبياتها وفي شأن سبل تطوير المكتبة التقليدية لتلبي متطلبات البحث في الزمن الرقمي حيث الكتاب لم يعد المصدر الوحيد. واذا كان الجدل بدا هادئا منتصف التسعينات من القرن الماضي مع ظهور مواقع على الانترنت تعرض كتباً ومع بداية اعتماد المكتبات التكنولوجيا الرقمية للتبويب وتسهيل وصول الباحثين الى المراجع، فإنه اتخذ أبعاداً جديدة وملحّة مع مشروع المكتبة الذي اطلقته شركة غوغل، وهي المحرّك الاقوى للبحث على الانترنت، عام 2004. والمشروع الذي يشمل تصوير ملايين الكتب أو تحويلها رقمية يؤمن خدمة البحث عن الكتب وفيها مجاناً. والهدف كما حددته الشركة “بسيط. تسهيل عمل الناس لإيجاد الكتب التي يريدون وخصوصا الكتب التي لا يجدونها بطريقة أخرى كالتي لم تعد تُطبع، وفي الوقت عينه احترام حقوق الناشر والمؤلف”. أما “هدفنا النهائي فهو العمل مع الناشرين والمكتبات لوضع تبويب افتراضي شامل يمكن البحث فيه في كل الكتب وكل اللغات يساعد المستخدمين على اكتشاف كتب جديدة ويساعد الناشرين على اكتشاف قرّاء جدد”.
مشروع طموح جداً بدأ ضخما مع خمس من أكبر مكتبات العالم، مكتبات جامعات هارفرد وميتشيغان وستانفورد وأوكسفورد والمكتبة العامة في نيويورك، ولا يزال يتوسع وبات يضم اليوم 28 مؤسسة أو مكتبة. ومع ان الشركة لا تعلن تفاصيل تنفيذ المشروع فإن ما قاله المهندس الأول فيه دانيال كلانسي يكفي لإعطاء فكرة عن ضخامته: عقد غوغل مع مكتبة جامعة بيركلي مثلاً يقتضي تصوير ثلاثة الاف كتاب يومياً أو تحويلها مادة رقمية. وعلى هذا الاساس فان التقديرات المتحفظة المتداولة هي ان غوغل تنقل أكثر من 10 ملايين كتاب سنوياً. والرقم الى ارتفاع مع الازدياد المتواصل لعدد شركائها في المشروع.
لكن غوغل ليست الوحيدة في هذا المجال.
فبعد تسعة أشهر من اطلاق مشروعها، أعلنت شركة ياهو، منافسها الرئيسي على الانترنت، مشروعاً مشابهاً عام 2005 لتحويل مئات الالوف من الكتب مواد رقمية في غضون بضع سنوات ووضعها على الانترنت بالمشاركة مع عدد من الجامعات ومؤسسات الارشفة وغيرها.
وفي 2005 ايضاً أعلنت شركة مايكروسوفت بدء مشروع مماثل وصورت أكثر من 300 الف كتاب قبل ان تعلن في ايار 2008 انها أوقفت مشروع البحث الحي في الكتب لكن ما صورته سيظلّ متاحاً. واطلقت شركات أخرى مشاريع مكتبات مماثلة بأحجام مختلفة.
وغوغل لم تكن الرائدة في فكرة نقل الكتب الى الانترنت وان تكن الأقدر حتى الآن.
فكرة تأمين وصول الكتروني للكتب قديمة تعود الى عام 1971 عندما بدأ مايكل هارت الذي كان طالباً في جامعة ايلينوي مشروعا سماه “مشروع غوتنبرغ” للاستفادة من ساعات عمل متاحة له على كومبيوترات الجامعة، خصصه للكتب الكلاسيكية غير الخاضعة لحقوق النشر أي تلك التي نشرت قبل 1923. يومها جنّد جيشا من المتطوعين لطبع الكتب باليد حرفاً حرفاً وارسالها اليه ليخزّنها في كومبيوتر الجامعة. وبدأ المشروع يأخذ شكله الفعلي عام 1991 اذ كان الهدف اضافة كتاب كل شهر. وفي 1996 صار يضاف كتاب كل يوم. والان يضاف 400 كتاب كل شهر والحصيلة عشرات الالاف من الكتب الكلاسيكية ويستمر العمل فيه بجهد تطوعي.
كثيرون يسعون الى انشاء مكتبات رقمية ويمكن تصفح عشرات من هذه المواقع على الانترنت لمؤسسات أو منظمات غير حكومية مثل “أرشيف الانترنت” (إنترنت اركايف) التي أسسها بروستر كالي عام 1996 في سان فرانسيسكو وطموحه اعادة بناء مكتبة اسكندرية حديثة فيها كل النصوص المتاحة، وكذلك لافراد أو ناشرين. وتعدد موسوعة “ويكيبيديا” الالكترونية أكثر من 50 مكتبة رقمية معظمها في الولايات المتحدة والقليل في أوروبا.
ولا بد هنا من التنويه بموقع الكتروني عربي رائد في هذا المجال هو “الوراق.كوم” الذي انشئ عام 2000 من أجل “نشر التراث العربي والاسلامي باستخدام تكنولوجيا المعلومات وما يتضمن ذلك من إعادة تحقيق وتوثيق لبعض مصادره وإعادة صوغ بعضها الاخر”، انطلاقا من رؤية “أن أمتنا العربية والاسلامية تواجه تحديا حضارياً شاملاً، وأن مواجهة هذا التحدي تبدأ من إعادة قراءة تراثنا الثقافي والفكري ونفض الغبار الذي علق به بعد قرون من التخلف والجهل، مسلحين بأحدث ما توصلت اليه تكنولوجيا المعلومات ومستفيدين من التطور الهائل في وسائل الاتصال، لتمكين الباحثين والدارسين والمثقفين والمهتمين من الوصول الى مجموعة من أهم المصادر العربية”. ويؤمن “الوراق” الوصول المجاني الى أبرز الكتب التراثية في شتى المواضيع: الادب، اللغة ومعاجمها، الحديث وعلومه، علوم القرآن ورجالاتها، الجغرافيا ، الفلسفة، الانساب، الشعر والشعراء، التاريخ، التراجم، الفقه والفقهاء، الرحلات، التصوّف، وعظ وارشاد، العقيدة، علوم مختلفة. ويزود الباحث معلومات اضافية عن المؤلف وكتبه الاخرى وكتب ومؤلفين من الحقبة نفسها. واضاف هذا الموقع خدمة مستكشف النصوص مجاناً ايضاً لتلبية عشرات الالاف من المشتركين.
المكتبات الرقمية لا تقتصر على الكتب وحدها. ثمة مكتبات خاصة بالمجلات الاكاديمية والعلمية ولعل أبرزها موقع “ج. ستور” الذي تأسس عام 1995 من أجل بناء ارشيف أكاديمي موثوق به يحفظ أكثر من ألف مجلة من أعدادها الاولى لكنه لا يوفر بعد الأعداد التي صدرت في السنوات الثلاث أو الخمس الاخيرة وإن يكن يؤمن الوصول اليها عبر اتصال من الموقع بمواقع هذه المجلات. والفارق بين هذه المكتبة والمكتبات التي تغطي الكتب انها ليست مجانية. واستناداً الى الاحصاءات التي نشرها الموقع بلغ عدد المشتركين فيه ابتداء من آذار الماضي 43276 مؤسسة منها 2058 في الولايات المتحدة و 2218 مؤسسة دولية بينها جامعات طبعا تؤمن هذه المادة في مكتباتها للاساتذة والطلاب، فيما تتمثل 134 دولة في هذه الاشتراكات و516 ناشراً. أما عدد المجلات الموضـــوعة أونلاين ابتداء من التاريخ نفسه فبلغ 773، والاختصاصات 47 والأعداد 525 ,176 والمقالات الكاملة 206 ,856 ,1 والمقالات 735 ,953 ,3 وعدد الصفحات 855 ,699, 24. وقد بلغ عدد الذين دخلوا الى الموقـــع بين الاول مـــــــن كانـــون الثـــاني و13 آذار 266 ,550 ,114 وبلغ عدد المـــقالات الـــتي طـــبعت مـــــــــنه 991 ,756 ,21 مقالاً.
ثم ان القواميس صارت رقمية والموسوعات صارت رقمية ولا حاجة اليوم الى عشرات الكتب أو المجلات تصطف على الرفوف ولا الى الغوض فيها لايجاد موقع ما أو معنى كلمة ما. الوصول اليها ممكن عبر الانترنت سواء أكانت مجانية أم غير مجانية.
على ان كل هذا النشاط المكتبي الرقمي ابتداء من ياهو وصولا الى الجهود الفردية لا يمكن مقارنته بحجم مشروع غوغل وطموحه وسرعة تنفيذه والتغيير الذي يحدثه في وضع هذا الكم من الكتب في متناول المستخدمين. وقد غذى المشروع الجدل في شأن مستقبل المكتبات والمادة الرقمية المتوافرة وغذى القلق لدى كثيرين من سرعة التغيير وأوجد حذراً لدى آخرين. لكن الانتقادات التي يتعرّض لها تتركّز على تفاصيل في اخراج المشروع أكثر منها على مضمونه وقيمته مثل السرية التي تحرص الشركة عليها خلال التنفيذ وظهور بصمات بعض الذين يصورون الكتب على بعض الصفحات. غوغل لا تعلّق ولا توضح، فما يهمها هو المضي سريعاً الى انجازه. والقليل المعروف عن السرية أن الشركة تخشى تزوير النسخ وسرقتها لذلك فانها، عوض ان تعتمد التصوير الآلي للكتب، توظّف جيشاً من الموظفين يعملون بتكنولوجيا طوّرتها خصيصاً لتصوير الكتب أو تحويلها رقمية ويعملون في مبان تخضع لحراسة مشددة قريبة جداً من المكتبات المعنية. أما نوعية التصوير فيبدو ان لغوغل فلسفة خاصة لها، كما قال أحد المسؤولين فيها هي أن الشركة تفضل إطلاق إنتاجها والعمل على تحسينه فيما الإنتاج يستمر عوض عدم إطلاقه. وهي احتاطت للأخطاء الممكنة سواء في نوعية التصوير أم في السهو عن بعض صفحات من كتب بأن ابلغت الى شركائها ان السرعة في التنفيذ تأتي قبل النوعية لكنها تعمل باستمرار على تحسينها. ويتفق هؤلاء على أن غوغل تحقق خلال العمل نتائج “مذهلة” في تحسين النوعية.
والواقع أن غوغل قادرة على تحمّل اخطاء في الطريق الى تنفيذ المكتبة الرقمية الشاملة أولاً لانها الشركة الاولى الاهم للبحث على الانترنت ثم لانها بقيمتها التي تبلغ نحو 150 مليار دولار قادرة على معالجة اصعب المشاكل أي تلك المتعلقة بحقوق النشر والملكية الفكرية. فهي تعمل بموجب بند “الاستخدام المنصف” في قانون حقوق النشر ولا تعنيها كثيراً دعاوى أقامتها عليها جمعية الناشرين الاميركيين دور نشر تقول إنها تنتهك حقوق النشر بعدم الحصول على ترخيص بتصوير نصوص هائلة من المكتبات بينها كتب لا تزال محمية بحق النشر. ويبدو ان مثل هذا الوضع قد ينطبق على بعض المكتبات الاميركية، ولكن في الخارج، كما في أوكسفورد وميونيخ، لا تصور غوغل الاّ الكتب غير الخاضعة لحقوق النشر.
الامر المؤكد ان هذه الحقوق هي احدى المشاكل الجدية المطروحة في مشاريع المكتبات الرقمية ولا سيما منها غوغل، خصوصاً ان القانون ينص على ان كل الكتب المنشورة بعد 1923 مغطاة بهذه الحقوق مدى حياة المؤلف زائد 70 سنة. لذلك فان غوغل تحل هذه المشكلة بعرض نص الكتاب كاملاً اذا كان منشوراً قبل هذا التاريخ أو اذا حصلت على تنازل من صاحب الحق عن الفترة اللاحقة، وفي ما عدا ذلك فانها تعرض بعض الصفحات التي يسمح بها “الاستخدام المنصف” للنصوص أو حتى بعض الاسطر وأحياناً لا تعرض شيئاً من الكتاب.
ومن الإنتقادات الاخرى التي توجه الى غوغل أن مشروعها الطموح بوضع كل التراث البشري في متناول الإنسان أينما كان يبدو مضللاً إذ قد يوحي بأنه سيكون فعلا بديلا عن المكتبات التقليدية فيشجع على اهمالها أو يوحي بأنه قادر فعلاً على جمع كل التراث البشري. وقد شكك روبرت دارنتون في مقال نشرته مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” (12 حزيران 2008) في قدرة غوغل على نقل كل هذا التراث الى مادة رقمية بل في قدرتها على نقل كل مخزون الكتب في مكتبات اميركا والذي يقدر بنحو 543 مليون كتاب، هذا من دون الحديث عن المجموعات الخاصة والنادرة، فيما الاصدارات تتوالى وتزيد سنويا. ففيما صدر 500،282 عنوان مثلاً في 2005، صدر 920 ,291 عنوانا في 2006 وتساءل كيف لغوغل ان تلحق بالنشر الحديث وفي الوقت عينه تنقل كل الكتب المتراكمة منذ قرون. واذ قال إنه من المتحمّسين لمشروع غوغل، أوصى بعدم اهمال المكتبات وبعدم التخلي عن النسخ المطبوعة من محتوياتها لان سرعة التغييرات التكنولوجية قد تجعل تكنولوجيا غوغل بائدة سريعاً مثلما حصل لتكنولوجيا الـ”سي دي” التي لم تعمّر طويلا. او قد يثبت أن تكنولوجيا غوغل لن تحفظ في حال جيدة كما حصل ذات يوم بالإعتقاد أن المايكروفيلم هو الأفضل لحفظها. وفي دعوة واضحة الى حماية المكتبات التقليدية ودورها على رغم التوازي مع تطويرها رقميا من اجل حماية النصوص المطبوعة، ذكّر دارنتون بأن الهوس في تطوير وسائل اتصال جديدة أودى بجهود بذلت سابقاً لحماية القديم كما حصل بفقدان 80% من الافلام الصامتة و50% من كل الافلام التي انتجت قبل الحرب العالمية الثانية.
وثمة من يخشى أن تحتكر غوغل المعرفة بأن تتحكم بعرض ما تريد وحجب ما تريد سواء من نصوص أو طبعات أو غيرها. فاذا حققت هذه الشركة طموحها بوضع التراث البشري على الانترنت ستكون نافذتها الصغيرة على أجهزة الكومبيوتر بوابة لكل مستخدم الى مكتبة هائلة تضم أكثر من 32 مليون كتاب و750 مليون مقال و25 مليون أغنية و500 مليون صورة و500 الف فيلم وثلاثة ملايين برنامج تلفزيوني و100 مليار صفحة لمواقع على الانترنت. نعم بقليل من الكبسات فقط.
لا يبدو هذا الخوف من الاحتكار مقنعاً في زمن ميزته طوفان المعلومات وإن يكن حذر البعض من سرعة الانتقال يبدو مبرراً وخصوصا لجهة التأكد من حفظ التراث الانساني. في أي حال، كل هذا طبيعي وهو من العوارض البشرية التي تترافق مع فترات التغيير الكبير والمراحل الإنتقالية. فكيف اذا كان التغيير فائق السرعة وكان ينسف مفاهيم وأساليب إعتادها البشر أو عشقوها؟ وكيف اذا كان العالم يحاول جاهداً ان يتأقلم مع تكنولوجيا تتغيّر كلّما ظنّ انه فهمها؟
ولكن لنعترف بأن المستقبل المنظور رقمي وأن شكل المكتبات وأساليب عملها تتغيّر في السنوات الأخيرة بحيث يصعب رسم حدود واضحة لطبيعتها، وانها في الغالب تتحول لتصير مزيجا من مكتبات تقليدية والكترونية ورقمية ليس للاستفادة من ايجابيات التكنولوجيا واستيعاب فيض المعلومات الذي بات متاحاً للجميع فحسب، بل لان التكنولوجيا رخيصة عمليا وتقلص الكثير من التكاليف ولا سيما منها كلفة التخزين ولانها في الدرجة الاولى حاجة للجيل الجديد. ففي المكتبات اليوم وخصوصاً في الغرب لم تعد الكتب تتكدّس على الرفوف بل انها تحتل مساحات اصغر والى جانبها وثائق ومراجع بالمرئي والمسموع وأشرطة فيديو وبودكاست وغيرها، ويزداد عدد أجهزة الكومبيوتر فيها وشبكات تربط الباحثين بعضهم مع البعض ومع مصادر بعيدة عبر الانترنت. وهذا أقل ما يتوقعه جيل الثورة التكنولوجية الاخيرة. ولعل أفضل تعبير عن هذه التوقعات قول نائب المدير العام لمكتبة ميونيخ كلاوس كينوا الذي عقد الصفقة مع غوغل انه وهو الذي يقترب من الخمسين “لا يرغب شخصياً في قراءة “نقد العقل المحض” لايمانويل كانط على الشاشة لكن الشباب اليوم مختلفون. اذا لم يجدوه على الانترنت يعتقدون انه غير موجود”.
ولنعترف بأن التكنولوجيا الرقمية أتاحت فوائد كثيرة وهكذا أيضاً المكتبة الرقمية. فكل ما كنا نفعله داخل المكتبة عملياً صار في إمكاننا أن نفعله أو نفعل معظمه خارجها وبواسطة أجهزة صغيرة الحجم ننقلها معنا أينما كنا. مستخدم المكتبة الرقمية لا يحتاج الى ان يذهب الى المكتبة لانها حرفياً في متناول يده ولا يتقيّد بساعات عمل المكتبة لان القاعدة التي تحكم وصوله الى المعلومات اليوم هي 24 ساعة يومياً وسبعة ايام اسبوعياً و365 يوما سنوياً. ثم ان المكتبة الرقمية تؤمن عمل أكثر من مستخدم على المصدر نفسه في وقت واحد وهذا لا يتيحه العدد المحدود من النسخ المتوافرة في المكتبات، وتؤمن سرعة هائلة في البحث من خلال ربط النص الواحد بنصوص ومراجع اخرى. واذا كان من نتيجة يمكن توقعها لكل هذه الفوائد فلا بد ان تكون مساهمة في التعجيل في تطور معرفة جديدة توسع آفاق الانسان.
ما تفعله المكتبة الرقمية يساعد كثيراً في البحث الاكاديمي والعلمي لانه يسهّل الوصول الى المصادر الاولية ويختصر الوقت الذي يضيع في البحث عن كلمة أو جملة أو في انتظار توافر نسخة لاستعارتها. فالمستخدم لا يجد الكتاب وحده بل معه كل ما يمكن ان يحتاج اليه من مصادر أو كتب مشابهة وكل ما كتب عنه من مراجعات وتعليقات بل حتى يكفي في البحث على غوغل الكتب الان ان يدخل المستخدم عنوانه كي يعرف مباشرة أقرب مكتبة يتوافر فيها الكتاب الذي يبحث عنه في المناطق التي تغطيها الشركة اذا اراد قراءته بالنسخة المطبوعة أو العودة اليه لسبب ما قد يكون عدم توافر نصه الرقمي. ومن حسنات المكتبة الرقمية أيضا أن تداول الكتب فيها يكون أسرع وأوسع من تداولها في المكتبة التقليدية وأن المكتبات التقليدية نفسها تصير قادرة على تجميع كميات أكبر من المواد في وقت أسرع ومساحات أصغر وكلفة أقل في تخزينها وحفظها ودوام استخدامها.
ولنعترف أيضاً بأن المكتبات الرقمية على أهميتها وما تعد به، هي حجار بناء غني جداً يثري المكتبة الكبرى التي اسمها الانترنت. فإذا كانت المكتبات الرقمية تؤمن محتويات مجموعات من المكتبات التقليدية فإن الانترنت لا تكون المظلة فحسب بل تتحول بهذا المعنى مكتبة المكتبات.
هذه الايجابيات لا يمكن ان تخفي عللاً ونواقص في المكتبة الرقمية. فإلى مشكلة حقوق النشر التي يسهل انتهاكها بنقل النصوص، ثمة من يتخوّف من خطر أن يؤدي الكم الهائل من المعلومات المحولّة رقمية الى صعوبة في إيجاد المعلومات المطلوبة لموضوع محدد وإلى بطء في عمل الشبكة. وهناك البيئة التقليدية للقراءة في المكتبات التي يقاوم كثيرون التخلي عنها والتي لا تستطيع المكتبات الرقمية إعادة إنتاجها، وهذه تنعكس اليوم تساؤلات عن احتمال ان تكون مكتبات المستقبل بلا كتب، وهناك ايضاً خطر أن تتطور التكنولوجيا على نحو يجعل من الصعب الوصول الى المعلومات المخزنة.
كل الايجابيات يمكن الافادة منها وكل السلبيات أو المشاكل تبدو قابلة للعلاج والاحتواء في العالم المتطور. لكن التحدي الاكبر يكمن في العالم النامي وعند فقراء العالم. فتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ووجود الانترنت أعطيا أملاً كبيراً في سد الفجوة الرقمية بين أغنياء العالم وفقرائه. والمكتبة الرقمية تعطي املاً جديداً في سد الفجوة المعرفية بين مجتمعات تنعم بفوائد التكنولوجيا الرقمية ومجتمعات بالكاد تستطيع ان تستمر بمكتبة تقليدية أو ربما تحلم بواحدة. فهل تكون كذلك ام ان مشكلة عدم ضمان وجود بنية تحتية صلبة لمكتبة كهذه في العالم الثالث ستستمر في تعطيل وصول الفقراء وتالياً في توسيع الهوة؟ مثل هذه المشكلة لا تحلّها مساعدات من الاغنياء للفقراء تزودهم أجهزة كومبيوتر بل مشاريع جدية لمساعدتهم على بناء البنية التحتية التي تضمن وصول التيار الكهربائي واستقراره ومد شبكات الاتصال واستمرار عملها.
هذا هو التحدي الاكبر. فأن نحلم بوصول سريع الى كل مصادر المعرفة البشرية لم يعد أمراً مستحيلاً لكننا من دون الاصرار بل التركيز على ايجاد بيئة مستقرة تضمن هذا الوصول واستمراريته نكون نختار جعله مستحيلاً، ومن دون ادراك معنى الاستفادة من فيض المعلومات وكنوز المعرفة بالقراءة في الدرجة الاولى والتي نفتقر اليها عموماً في عالمنا العربي نكون مرة جديدة نستسهل التبعية بل نختارها في لحظة انتقال العالم الى أفق جديد.
النهار