توظيف المواقف الرمادية لدول الخليج
د. خالد الدخيل
كثيراً ما تأتي الأحداث لتؤكد بأن مجلس التعاون الخليجي منظمة إقليمية من دون دور واضح، أو هدف محدد. وجود هذه المنظمة شيء إيجابي، ويجب أن يتكرس، لكن عمرها يقترب الآن من الثلاثين سنة ولم تتمكن بعد من مغادرة المنطقة الرمادية التي ولدت فيها، خاصة فيما يتعلق بطبيعتها ودورها الإقليمي. آخر الأحداث التي تؤكد اللون الرمادي الذي يلف هذه المنظمة، ما رشح أخيراً عن دعوة يقال إنها وجهت للرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، لحضور قمة المجلس في مسقط أواخر العام الحالي. ما هو مصدر هذا الخبر؟ من وجه الدعوة؟ ولماذا الآن؟ حسب صحيفة “الشرق الأوسط”، مصدر الخبر إيراني، وتحديداً وزير الخارجية “متقي”، والمتحدث باسم الخارجية الإيرانية “حسن قشقاوينه”. أما الطرف الخليجي الذي وجه الدعوة، حسب الصحيفة نفسها، واعتماداً على المصادر الإيرانية أيضاً، فهو أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أثناء زيارته لطهران أواخر الشهر الماضي.
في مقابل التصريحات الإيرانية الرسمية، هناك تصريحات لمسؤولين خليجيين مجهولي الهوية. لم يخرج مسؤول عماني (القمة ستعقد في عمان) أو مسؤول قطري (قطر ترأس القمة الخليجية حالياً)، ليعلق علناً وبشكل رسمي على الموضوع. يأتي خبر الدعوة من طهران، وليس من الدوحة، صاحبة الدعوة. كل مسؤول خليجي علق على الموضوع كان من دون اسم. واللافت هنا هو الصمت القطري المضاعف، حتى بعد إعلان الخبر من طهران. مقابل الصمت القطري اكتفت سلطنة عمان بتصريح لأحد مسؤوليها (من دون ذكر للاسم أو المنصب) لصحيفة “الشرق الأوسط” عبر فيه عن تفاجئه بخبر الدعوة، وتأكيده على أنه “لا توجد نية لدى سلطنة عمان لدعوة قادة غير خليجيين إلى القمة المقبلة”، ثم أضاف قائلاً إن “القمة المقبلة سيكون الحضور فيها مقتصراً على دول الخليج العربية فقط”. نوعية التصريح العماني وقوته توحي بأن المصدر المشار إليه يحتل منصباً رفيعاً يسمح له بإعلان موقف حاسم بهذه الدرجة. من ناحية أخرى، يشير التصريح إلى ما يبدو أنه امتعاض عماني من التحرك القطري بدعوة الرئيس الإيراني للقمة بشكل منفرد، ومن دون التشاور مع بقية الدول الأعضاء في المجلس، خاصة الدولة المضيفة. هل يمكن أن تنفرد قطر بخطوة مثل هذه، تعني كل الدول الأعضاء في المجلس، وفي مثل الظرف الدقيق الذي تمر به المنطقة حالياً؟ إذا صح ذلك فإنه يؤشر إلى أن درجة التنسيق بين دول المجلس أسوأ بكثير مما يتصور البعض. ولذا أثار إعلان خبر الدعوة من طهران تساؤلات وردود فعل داخل الدوائر الخليجية. والأرجح أن زيارة أمير قطر للرياض أوائل الأسبوع ذات علاقة بهذا الموضوع.
السؤال: لماذا دعوة إيران أصلاً لحضور قمة مسقط؟ وما الهدف من ورائها؟ وعلى أي أساس تمت الدعوة؟ حتى الآن يبدو أن هدف الدعوة لا يتجاوز حدود محاولة كسب ود إيران، وطمأنتها حول النيات الخليجية في ضوء تصاعد قضية ملفها النووي. ليس هناك مشروع سياسي وراء دعوة الرئيس الإيراني للقمة الخليجية. والأرجح أن مبادرة إيران بإعلان خبر الدعوة بالطريقة التي تمت بها، جاء على خلفية طبيعة الدعوة، وتواضع هدفها.
لماذا بادرت طهران إلى إعلان الخبر، ولم تترك الأمر للدولة صاحبة الدعوة؟ هل كانت طهران تعرف أن الخبر سيبقى، وفقاً للتقليد الدبلوماسي الخليجي، طي الكتمان حتى قبيل القمة، فأرادت استخدامه مبكراً كورقة سياسية، أو كبالون اختبار؟ هل كانت تعرف أن دعوة قطر هي مبادرة منفردة، ومن دون التشاور مع بقية دول المجلس؟ وإذا كانت تعرف ذلك، فلماذا بادرت إلى إعلان خبر الدعوة، ولم تترك أمر الإعلان عنها للدوحة؟ هل أرادت إيران إحراج القيادة القطرية؟ أم أرادت اللعب على مساحة اللون الرمادي الذي يغلف مواقف دول المجلس؟ أمر آخر لافت، وهو الطريقة التي أعلن بها وزير الخارجية الإيرانية خبر الدعوة. حيث قال بعد تأكيده دعوة نجاد للقمة الخليجية: “نحن ندرس الدعوة الموجهة إلينا، وسنعلن في حينها المشاركة أو عدم المشاركة”. مثل هذا التصريح، وبهذا الأسلوب، يخلو من اللياقة الدبلوماسية من حيث أنه أعاد تأكيد أن الدعوة جاءت من دول الخليج العربي، وأن هذه الدعوة لمصلحة هذه الدول قبل أن تكون لمصلحة إيران. ولذلك تفضل طهران، حسب وزير الخارجية، أن تدرس الدعوة. وفي ضوء ما تسفر عنه الدراسة ستقرر إيران إن كانت ستلبي الدعوة أم لا؟ ما الذي ستدرسه طهران هنا؟ هل قدمت لها مع الدعوة مقترحات أو مشاريع سياسية تتطلب الدراسة؟ أم أنها الطريقة الدبلوماسية ذاتها بممارسة التريث والتمنع حتى تبدو بمظهر الدولة الأقوى إقليمياً، بعد سقوط النظام العراقي السابق على يد الاحتلال الأميركي؟ ما هو المعيار الذي ستعتمده طهران في حسم موقفها من الدعوة؟ يقول متقي “إن مشاركة إيران في أي اجتماع ستكون منطقية، بشرط تعريف أهداف المشاركة وتفضيل المصالح الإيرانية”. موقف الوزير هنا يتجاوز مبدأ أن الدولة تنطلق في سياساتها من مصالحها. عادة ما يتم التعبير عن ذلك بأسلوب مغلف بمقتضيات الدبلوماسية، خاصة إزاء دول مجاورة.
على العكس، يبدو من تصريح الوزير أنه تعمد تجاهل مصالح دول الجوار الخليجي. حيث اشترط “تفضيل مصالح إيران” لقبولها دعوة حضور القمة الخليجية. و”التفضيل” سيكون على حساب مصالح مضيفي الرئيس الإيراني. بمثل هذا الموقف تعمد الوزير عدم إبداء شيء من التقدير لدعوة قطر. وإذا كان التصريح المنقول عن وزير خارجية إيران دقيقاً، فإنه يفرض التساؤل عن السبب الذي حدا به لتحديد موقف بلاده من الدعوة على هذا النحو. ربما أراد بذلك الإيحاء بأن إيران فهمت دعوة قطر كتعبير عن ضعف في الموقف الخليجي، وبالتالي تعاملت مع الدعوة انطلاقاً من هذه الرؤية. وربما أراد الوزير، وفي ظروف تصاعد المواجهة حول ملف دولته النووي، التأكيد على قوة موقف حكومته، وأن الآخرين إدراكاً منهم لذلك هم الذين يسعون إليها، وإلى كسب ودها انطلاقاً من حاجتهم هم، وليس العكس. ومن المعروف أن الهدف الأساسي للسياسة الإيرانية مؤخراً، كما هو واضح من تصريحات كبار المسؤولين، ومن الاستعراضات والمناورات العسكرية المتكررة، إقناع الآخرين بقوة إيران وتطور إمكانياتها. ويأتي تصريح وزير الخارجية لينتظم في الخط السياسي ذاته.
سؤال أخير: لماذا بادرت قطر إلى دعوة إيران ابتداءً؟ ولماذا لم تتشاور مع الدول الأخرى في مجلس التعاون بشأن الدعوة؟ هذا في ظني السؤال المركزي في القضية، على افتراض أنها بالشكل الذي ظهرت به. لا يكمن التبرير في ترؤس قطر للقمة الخليجية، لأن هذا لا يعطيها أكثر من حق إدارة تنسيق سياسات دول المجلس، وليس الإنفراد بمبادرات دون الرجوع لهذه الدول. لكن مع ذلك، قد لا يكون في التصرف القطري خروج على القاعدة. لأنه لا يبدو أن هناك قاعدة في مجلس التعاون يمكن الاحتكام إليها. فليس هناك تنسيق بين دول المجلس في موضوع السياسة الخارجية. كل دولة لها سياستها ومواقفها الخاصة بها. بل كثيراً ما تتضارب السياسات الخارجية لدول المجلس. يتضح ذلك في الموقف من إيران، ومن المسألة العراقية، ومن الأزمة اللبنانية، ومن الملف النووي الإيراني. في مثل هذه الحالة افتقد مجلس التعاون القدرة على المبادرة، كما أن دول المجلس ذاتها، كل على حدة، ليست حريصة على المبادرة أيضاً. في هذا الإطار تصبح المبادرة ميزة سياسية. وهو ما يبدو أن قطر استغلته، واستغلت الفراغات الموجودة بين دول المجلس بسبب تناقضات سياساتها الخارجية، ومعه المجلس كمنظمة إقليمية، كغطاء لتحركاتها السياسية. فعلت الشيء نفسه في الأزمة اللبنانية، وخرج ما يعرف باتفاق الدوحة. دعوة قطر لإيران جاءت من الباب نفسه. دول أخرى، سوريا وإيران، تحاول استغلال الفراغات والتناقضات الخليجية ذاتها. وقد نجحت سوريا في ذلك أثناء إشكالية قمة دمشق، وتصاعد الأزمة اللبنانية مؤخراً. وفي كلتا الحالتين، وخاصة في الأزمة اللبنانية، كانت قطر هي قنطرة الدخول إلى التناقضات الخليجية.
كل ذلك يؤكد أموراً ثلاثة: أن مجلس التعاون ليس تكتلاً اقتصادياً، وليس منظمة إقليمية معنية بالشأن الأمني للدول الأعضاء، وأخيراً ليس تكتلاً سياسياً بين دول تتشابه في تركيبتها الاجتماعية وفي أنظمتها السياسية. نعم يريد المجلس أن يكون كل ذلك. لكنه لم ينجح في أي منه حتى الآن. وإنفراد قطر بدعوة إيران للقمة الخليجية آخر شاهد على ذلك. لا تملك دول المجلس الأخرى غير الاحتجاج والتساؤل.
جريدة الاتحاد