الظل الطويل لإيران
محمد الرميحي
ثمة لغط كبير حول دعوة دولة قطر إلى طهران لحضور القمة الخليجية المقبلة في مسقط. والكثير مما كتب ظل تسريبات صحافية لم يظهر حتى الآن نفي لها أو تأكيد. هناك وجهة نظر معارضة للدعوة، إن وجدت، ولها أسباب شكلية وأخرى موضوعية.
الشكلية هي أن الدعوة يجب أن تصدر من العاصمة التي سوف تحتضن القمة المقبلة، وهي هنا مسقط. كما أن هناك توافقا بين أهل الخليج في القمّة السابقة على أن تتم الدعوة لدولة خارج التعاون من خلال اجتماع لوزراء الخارجية فقط. واجتماعهم لم ينعقد بعد.
الموضوع يتعدى القضايا الشكلية. إيران جارة كبيرة، وهي الآن في موقع الخلاف الجذري مع الغرب لأسباب صارت معروفة. خلافها مع الغرب لا يعني تلقائيا خلافا لها مع دول الجوار، وخاصة الخليج.
ينحصر الخلاف بين مجلس التعاون وإيران في ملفين رئيسيين؛ الأول تبعية الجزر الإماراتية، والثاني التدخل غير المباشر لطهران في بعض الدول العربية، ومنها الأكثر وضوحا العراق ولبنان. وفي هذين الملفين تنحصر خلافات وجهات النظر.
نقاط الخلاف تلك تستدعي الحوار لا المقاطعة. من يرى من المتحمّسين أن سياسة إيران بشكل عام تشبه إلى حد كبير سياسة النظام العراقي السابق، فهو -إن لم يكن مخالفا للحقيقة- مبالغ فيها على الأقل، فإيران تموج داخليا بتيارات سياسية مختلفة في ما بينها، وتُجرى فيها انتخابات معقولة وتتغير القيادات، وبعض تياراتها السياسية لا تتفق مع السياسات المعلنة للإدارة الحالية في طهران في الموضوعين محل الاحتجاج العربي.. الأول والأهم التدخل الزائد عن اللزوم في الشؤون الداخلية لكل من العراق ولبنان، فهو يكلف الخزينة الإيرانية مبالغ طائلة، ولا يحقق إلا أغراضاً محدودة، والثاني الموقف من الجزر العربية التي يمكن حلّها عن طريق التفاوض أو عن طريق التحكيم الدولي.
النظام الإيراني الحالي في بعض سياساته الرئيسية يقف ضد رياح التغيير، إلا أن هذه الرياح عادة ما تتفوّق في هبوبها على المواقف الأيديولوجية، هكذا علّمنا التاريخ الحديث. فالأيديولوجيا لا تطعم الناس من جوع ولا تكسوهم من عريّ ولا تهيّئ لهم سبل العيش الكريم.
في الموضوع العراقي يجب ألا ينساق أحد نحو التهوين في الوطنية العراقية، فهي وطنية، مثلما ترفض الوجود الأميركي الدائم وغير المقنّن، سوف ترفض بمقاومة أكبر أي وجود آخر، بما فيه الوجود الإيراني، وإذا كانت أميركا قد تعبت من مواجهة هذا الشعور الوطني العراقي، فلن تستطيع إيران أن تواجهه على المدى المتوسط والطويل، هذا إذا افترضنا أن طهران تريد أن يكون لها موقع الآمر الناهي في بغداد. فدخولها في «المستنقع العراقي» تحت أية تسمية سوف يجرها إلى استنزاف هي غير مؤهلة له وغير قادرة على مواجهته.
من جانب لبنان، فإن طهران لها نفوذ على شريحة من اللبنانيين وليس عليهم جميعاً، أما معظم اللبنانيين، وهم من طوائف عديدة -وبعضهم من الطائفة الشيعية نفسها- فمعارضون أو ممتنعون عن الدخول تحت المظلة الإيرانية، وهنا السكّينة الأيدلوجية لطهران لا تقطع كثيراً في اللّحمة اللبنانية، ولذا فإن هذا النفوذ محدود بتلك الشريحة المؤدلجة، وأيضا محدود بالتعاون السوري.
تبقى قضية الجزر، وهي قضية ورثها النظام الحالي من السابق. فالتصعيد فيها لا يأتي بنتيجة، حيث إن الحل العسكري غير وارد، والطريق إلى استيعاب الوضع هو إيجاد نوع من بناء الثقة وتفهّم المصالح المتبادلة، حتى يمكن للقوة الناعمة -الدبلوماسية- أن تحقق أغراضها.
إذا أردنا تليين الموقف الإيراني من الملفين العالقين فعلينا مواجهة حقيقة أن الشعور بالحصار السياسي والاقتصادي والعزلة يشد من عزيمة المتشددين ويدفع الجمهور لتأييدهم، ويفتح الأبواب لتفاقم المشكلات.
إيران لها علاقات مع دول كبرى، الصين في الذهن، وعقود إيران مع الصين تفوق قيمتها مئة مليار دولار على مدى السنوات العشر التي بدأت العام قبل الماضي، نظرا لرغبة الصين في تثبيت إمدادها من النفط. كما أن إيران تقترب كثيرا حسب التقارير العالمية من تخصيب اليورانيوم، وإذا تذكرنا أن ما تحتاجه قنبلة نووية واحدة لا يزيد عن 26.4 رطلا إنجليزيا من خام اليورانيوم المخصّب، علمنا بعدها أن معركة «صناعة الدمار الشامل» ليست بعيدة عن اليد لأناس مصمّمين على القيام بها، فالعالم اليوم توجد فيه ثماني دول نووية، كما يتوفر فيه 20 طناً مترياً من اليورانيوم المخصب في 130 مفاعلاً للبحوث حول العالم.
معركة التسلح النووي ليست معركة إيران مع العرب، هي معركة ممتدة، حتى إنها تتعدى إسرائيل جغرافياً، غير أن التهديد بتوازن الرعب تريد منه إيران كسب الاعتراف الدولي بأن النظام القائم نظام دائم. وأي حديث عن تهديد الخليج نووياً سوف يهدد جملة مدن إيرانية، أو أي استخدام حتى ضد تل أبيب هو استخدام ضد بيروت ودمشق وعمّان وما جاورهنّ في وقت واحد. خوف العالم من وقوع مثل هذه الأسلحة في أيدٍ غير مسؤولة، هو خوف لا تبدّده -مع الأسف- التصريحات الإيرانية المتشددة.
الطريق الأكثر سلامة لضفتي الخليج هو الانخراط المحصّن في حوار مع إيران، وهو الأفضل سياسيا ومصلحيا، وقد يجري تبصير القيادة الإيرانية الحالية، من خلال الحوار وجهاً لوجه، بمدى أهمية التعرف على التخوف العالمي والقلق الإقليمي، ودرجة التصميم في العالم على حصر أسلحة الدمار وتقليصها.
اجتماعات الوجه للوجه تتيح تحديد الخلافات واستنباط طرق لحلها وتؤسس للتآلف.
هذا الانخراط المحصّن هو ما يجعل من دعوة طهران إلى القمّة في العام المقبل تبدو للعقلاء خطوة جيدة… فهل نفعل لإزاحة الظل الطويل والتعرّف على الأصل؟
أوان الكويتية