الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية
ميشال نوفل
تحاول هذه الورقة التي قدمت في مؤتمر في القاهرة حول “الدور الايراني في المنطقة بين المصالح والهيمنة”*، ان تعرض للاطار المفاهيمي البنيوي الذي يحكم الدور الايراني على المستوى الاقليمي، ثم تحليل العوامل الدولية والاقليمية المؤثرة في اتجاهات العلاقة الايرانية ـ السورية والوقوف على بعض انماط التفاعل في اطار هذه العلاقة.
***
القمة العربية الأخيرة في دمشق تمثل، من حيث المناخات المحيطة بها وأبعادها الاقليمية، مدخلاً مناسباً لمقاربة موضوعنا المتعلق بالدور الايراني والعلاقة السورية ـ الايرانية. فقد عُقدت القمة العربية الـ20 في مناخ استقطاب عربي عميق بين محورين رئيسيين يمثل أحدهما المجموعة العربية المسماة معتدلة وتحديداً السعودية ومصر والأردن، فيما يضم المحور الآخر سوريا التي تساندها إيران القوة الاقليمية غير العربية التي ألقت بظلها الثقيل على القمة. وعكس غياب أقطاب الاعتدال العربي عقب اعلان السعودية ومصر عدم المشاركة على مستوى الرؤساء وخفض مستوى تمثيلهما في القمة على خلفية التوتر مع سوريا حول الأزمة في لبنان وفلسطين، حالة شبيهة بتلك التي كانت تسود المنطقة بين 1957 و1967 عندما طبع تلك الفترة صراع بين مصر الناصرية والمملكة العربية السعودية أطلق عليه “الحرب الباردة العربية” واستمر حتى حرب 1967 بين اسرائيل والعرب.
نظام الصراع: تشكيلان نزاعيان
يعتبر الشرق الأوسط إجمالاً، وبصرف النظر عن التعريف الجغرافي ـ السياسي المعتمد (الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، العالم العربي، الشرق الأوسط الجديد… إلخ) نظاماً إقليمياً أو نظاماً دولياً فرعياً، أي انه يتشكل من مجموعة من الدول تتميز بالجوار الجغرافي وبوتيرة كثيفة من التفاعلات في ما بينها (جميل مطر وعلي الدين هلال، النظام الاقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986). أما في ما يتعلق ببيئة الصراع في المنطقة، فيبدو مناسباً الحديث عن تفاعلية شديدة لنظام صراع يتداخل فيه تشكيلان نزاعيان رئيسيان ومجموعة من التشكيلات الثانوية. التشكيلان الرئيسان هما النزاع العربي ـ الاسرائيلي الكلاسيكي أو النزاع في الشرق الأوسط، والنزاع الأميركي ـ الايراني في الخليج وشبه الجزيرة العربية.
لا يمكن لاعتبارات عملية ونظرية الفصل بين هذين التشكيلين، وبالتالي على غرار تشكيل الحرب الباردة سابقاً في أوروبا يمكن أن نضع التشكيلين الرئيسين على خط مواجهة مركزي واحد، وذلك لانخراط جمهورية ايران الاسلامية في النزاع العربي ـ الاسرائيلي والتحدي الذي تطرحه الاستراتيجية الايرانية الاقليمية ولا سيما منها ملف البرنامج النووي على السياسات العربية والاسرائيلية والأميركية.
يمكن للتقريب أن نتصور بيئة نظام الأزمة في الشرق الأوسط الكبير بأنها عبارة عن حركة تداخل بين طبقة تكتونية تمثل حرباً باردة صغرى عربية ـ عربية، وطبقة تكتونية اخرى تمثل حرباً باردة اقليمية أميركية ـ ايرانية، ولبنان وسوريا هما في بؤرة التداخل والتفاعل بين الحربين.
لبنان ساحة في آن للحرب الباردة العربية، خصوصاً بين سوريا من ناحية ومصر والسعودية من ناحية اخرى، وللحرب الباردة الاقليمية بين ايران وأميركا، حيث ان ايران تربط التجاذب حول برنامجها النووي. “استراتيجية الأذرع الاقليمية” التي تعتمدها لاقامة مناطق نفوذ وأحياناً لتخفيف الضغط عنها في النزاع الدائر حول الملف النووي. واهم هذه الاذرع على الاطلاق “حزب الله” اللبناني.
الأميركيون يريدون لبنان ساحة ينفذون فيها عملية ًكفق هَىٌٌُز لسوريا وإيران لإخراجهما من هذه الساحة في النهاية، ولا يبدو أن الأميركيين في وضع يحاولون فيه أن يشجعوا أو يضغطوا على السعودية وحلفائها لكي ينفتحوا بالحد الأدنى على سوريا.
كذلك، ان ايران التي ترفض التسوية مع اسرائيل عبر المفاوضات وتطرح مشروعاً استراتيجياً مفارقاً للمشروع الأميركي، تملك امكانات تحرك كبيرة في لبنان، وهي أوراق تكاد أن تكون ذات قيمة استراتيجية من زاوية الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وتحتاج ايران الى سوريا لضمان قيام حدود مشتركة مع اسرائيل من طريق تواصل الخط الجيوستراتيجي بين طهران وجنوب لبنان (المتوسط)، وبالتالي لا يمكن أن تزعلها في لبنان ما دامت لا تهدد مصالحها الأساسية.
لكن الحرب الباردة الاقليمية بين أميركا وإيران حول الملف النووي الايراني، تغذي الحرب الباردة العربية، من حيث ان التشدد على هذا المستوى يمثل سقفاً لسوريا وهذا ظهر بوضوح في عملية بيروت في أيار (مايو) الماضي.
وتعتمد سوريا التحالف مع إيران ورقة الضغط الرئيسية على اسرائيل فيما يوظف التعاون السوري ـ الايراني لتوفير عمق استراتيجي لدمشق حيال الضغوط الأميركية والغربية إجمالاً على دمشق، وهي ضغوط تفاقمت مع تمركز الأميركيين في العراق عام 2003 واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في لبنان.
محوران للحرب الباردة
إذاً للحرب الباردة في الشرق الأوسط محوران متراكبان أحدهما يغذي الآخر وبالعكس. لكن المحور الاقليمي الأوسع (أميركا ـ إيران) يمارس تأثيراً أكبر على المحور العربي للحرب الباردة، حيث ان سوريا باتت في موقع التبعية في إطار تحالفها مع ايران من حيث الامكانات المالية والعسكرية وأنظمة التسلح، وحتى تصحيح اختلال ميزان القوى مع اسرائيل. وإن كانت دمشق تعمل لاعادة التوازن الى علاقتها بطهران من خلال الانفتاح على تركيا والعودة الى مفاوضات التسوية مع اسرائيل. كما أن للبرنامج النووي والصاروخي الايراني تداعيات تطاول ميزان القوى العام في الشرق الأوسط.
إن الحرب الباردة الدائرة في المنطقة وحولها تدفع نحو محاولة توظيف ديبلوماسية الصراع العربي ـ الاسرائيلي في صراعات المنطقة الأخرى، وليس باتجاه تسوية هذا الصراع أولاً، وكمدخل لإحداث تغيير في البيئة السياسية الأمنية في المنطقة. ويساعد في هذا المنحى ان القيادة الفلسطينية تبدو بعد 14 حزيران (يونيو) 2007 وفك الارتباط عملياً بين الضفة والقطاع غير قادرة على الذهاب بعيداً في عملية “انابوليس” بسبب الضعف الذاتي وغياب أي أفق فعلي للتسوية يمكن المجازفة بتقديم تراجعات رسمية تجاهه. ناهيك بأن الموقف الاسرائيلي واضح ويقول بعدم تناول القضايا الحساسة والأساسية وبرفض مبدئي لأي اتفاق إطار يطالب به الفلسطينيون الآن. أما واشنطن، فهي تسعى الى تبني الوضع الفلسطيني الجديد ومنحه ورقة الدعم الدولي والأميركي من أجل التأثير في بناء ميزان قوى جديد في “البيت الفلسطيني” ولـ”تسليف” شكلي للعرب من خلال هذا الانكباب علي الملف الفلسطيني الذي بقي مهمشاً منذ 2001، مقابل الحصول على دور عربي ناشط وفاعل وداعم للاستراتيجية الأميركية في العراق والدفع نحو اصطفاف عربي ـ اسرائيلي في المواجهة الدائرة مع إيران على النطاق الاقليمي، بحيث ان الصورة التي تبقى في الأذهان عن مؤتمر أنابوليس هي انه “مؤتمر فلسطيني الوسيلة وإيراني الهدف”.
المتغير الاقليمي الاساسي
ان تقديراً دقيقاً للموقف على مستوى محاولة تحريك المسار السوري ـ الاسرائيلي يشير الى أن أي خطوة جدية للانتقال من المحادثات غير المباشرة الجارية بين السوريين والاسرائيليين عبر تركيا، الى مفاوضات رسمية مباشرة تقود الى تطبيع متبادل وحماية دولية لسوريا، تنتظر الادارة الجديدة في واشنطن، وإن كانت كافية لأن تهز الموقف الايراني كلياً ولها انعكاسات على أنماط التفاعل السورية ـ الايرانية أو من حيث كيفية مواجهة هذا المتغيّر الأساسي على المستوى الاقليمي.
ولا شك في أن هناك تغييراً ما في الموقف الأميركي من سوريا على الأقل على مستوى المؤسسة السياسية الاستراتيجية الأميركية التي تجاري التحوّل الفرنسي الذي يقوده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تجاه الانفتاح على دمشق، وأنه ضمن حركة الدفع الناتجة من مؤتمر أنابوليس قد تشهد المنطقة قريباً مفاوضات على المسار السوري ـ الاسرائيلي. وقد رأت عواصم غربية عدة في مقدمها العاصمة الفرنسية، أنه يتعيّن في ضوء المراجعة الاستراتيجية للسياسة الأميركية التي فرضها تقرير هاملتون ـ بايكر، العمل لاستقطاب “الورقة السورية” إذا كان المراد إضعاف نفوذ إيران في المنطقة ومحاصرتها وإبعادها عن المجال الجيوسياسي للصراع العربي ـ الاسرائيلي. طبعاً، إن هذا الاتجاه في التخطيط الغربي لا يعني بالضرورة تقديم “هدايا” الى دمشق، أو عقد صفقة تعيد “تلزيمها” الأمن في لبنان، إنما إلزام سوريا بتغيير سلوكها السياسي عبر الانخراط في المفاوضات والتسوية مع اسرائيل. واللافت في هذا الشأن انه على رغم الخلاف السوري ـ السعودي الشديد، فقد أصرت الرياض لدى إدارة بوش على ضرورة إشراك سوريا في مؤتمر أنابوليس، وهكذا فعلت أيضاً اسرائيل وفرنسا.
لقد تبيّن للديبلوماسية الغربية أخيراً انه لا يمكن التعامل مع سوريا من المنظور الايديولوجي المعادي لإيران، بل التعامل معها من منظور استراتيجي يقوم على المصالح المتبادلة. وإذا كانت هذه مسألة أساسية جداً الآن، على الأقل بالنسبة الى الرئيس الفرنسي واسرائيل ومجموعات الضغط المؤيدة لاسرائيل في أميركا (باستثناء مجموعات المحافظين الجدد)، فإن هذا لا يعني أن فجوة للحوار قد فتحت بين واشنطن ودمشق، بل ان تشققات ظهرت في الجدار السوري ـ الايراني وهناك بداية تحوّل لكون سوريا أعادت ـ من خلال تركيا وكشف المحادثات غير الرسمية مع اسرائيل ـ تموضعها الاقليمي وانتقلت الى موقع التقاطع بين المحورين الاستراتيجيين في المنطقة، ولم تعد محشورة في زاوية تسلم فيها الدفة الى إيران. وهذا لا بد أن ينعكس في لبنان حيث تحاول إيران من خلال “حزب الله” التشدد في الإمساك بأوراقها بشكل أفضل وعلى نحو مستقل عن سوريا.
خط طهران جنوب لبنان
وأياً تكن هوية الادارة الجديدة في واشنطن بعد أشهر قليلة من الآن، فإن موقف البيت الأبيض مرشح للتغيير تجاه سوريا وعلاقتها بإيران. ذلك ان ما يشغل المؤسسة الاستراتيجية في واشنطن هو الخط المفتوح بين طهران وجنوب لبنان عبر “المعبر السوري” وكيفية العمل لإضعافه. ويبدو أن هذه “الورشة” التي ينشط فيها الرئيس الفرنسي والتي قد تكون مسؤولة عن نوع من التوتر الخفي بين سوريا وإيران، تستهدف إضعاف خط طهران جنوب لبنان بوسائل عدة منها فتح باب الحوار أمام سوريا لتطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي من طريق اسرائيل ما دام عنوان إسقاط النظام السوري أو تغيير هذا النظام لم يعد وارداً وبات على الديبلوماسية الغربية التعامل معه، كما تدل كثافة الاتصالات الفرنسية بدمشق ومستواها الرفيع والدافع بالطبع ليس لبنان فحسب، بل ان فرنسا الذاهبة الى دمشق هي فرنسا نفسها التي تقوم بينها وبين إيران حالة صدام في الملف السوري. وهنا المفارقة الفرنسية: الرئيس شيراك ذهب بعيداً في الانفتاح على إيران من أجل احتواء سوريا، وساركوزي يذهب بعيداً نسبياً في الانفتاح على سوريا لاحتواء إيران.
مفارقة الشريكين
ثمّة إشارات متزايدة توحي بارتباك العلاقة السورية ـ الإيرانية، ترافقها مظاهر “نرفزة” تجاه دمشق لدى الإيرانيين برزت خلال عملية السيطرة المسلحة على بيروت مطلع أيار (مايو) الماضي وما تلاها من تطورات كان أبرزها التوصل إلى اتفاق الدوحة حيث بدا ان النظام العربي الرسمي يداري إيران ويحاول ان يجذب سوريا إليه.
وكان لافتاً في هذا الإطار كلام عالي النبرة يصدر في طهران عن الدكتور علي لاريجاني عقب توليه منصب رئيس البرلمان حول “انتصار إقليمي” حققه “حزب الله” في لبنان نتيجة تجاوز الخط الأحمر للفتنة الشيعية ـ السنّية. وتزامناً مع إعلان التقدم في المحادثات السورية ـ الإسرائيلية عبر تركيا، استقبل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” الفلسطينية خالد مشعل، وجاءت تصريحات المرشد في هذه المناسبة لتندّد بأولئك الذين يسلكون طريق المفاوضات لانتزاع حقوقهم المغتصبة من الإسرائيليين. وإذا أضفنا ابتعاد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير عن الموقف التقليدي للمقاومة بالتشديد على انها لم تعد تحتاج إلى إجماع وطني، نقترب من تلمس حالة اهتزاز للعلاقة الإيرانية ـ السورية، وكأن كلاً من الشريكين يوضب أوراق حساباته في إطار شركة قد تكون معرّضة للتفكك، أو كأن كل واحد منهما يريد ان يعرف مقدار حصصه تحوطاً لتطور ما مفاجئ ولو كانت الشركة غير مرشحة للحل في المدى المنظور. اما بقاء وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي يومين في بيروت عقب حضوره مراسم تنصيب الرئيس ميشال سليمان، فإنه من نوع “الظهور” الذي ينطوي على “رسالة” تعني انه بات لإيران حصة مباشرة في لبنان وأنها مصرة على العمل فيها سواء بالصدام مع الآخر أو بالتفاهم مباشرة معه، وأن لبنان لم يعد ورقة بيد سوريا في حين لم يعد اللاعب الإيراني احتياطاً للورقة السورية.
هذا لا يعني ان الشريكين السوري والإيراني عازمان على الطلاق، ولكن الظروف الموضوعية التي تحكم التقدم على المسار التفاوضي السوري ـ الإسرائيلي، قد تضفي صفة عادية على العلاقة السورية ـ الإيرانية، بحيث تنزع عنها قيمة الترابط الحيوي والمصيري، خصوصاً بعدما أبلغ الرئيس السوري بشار الأسد وفداً بريطانياً في الآونة الأخيرة ان المحادثات السورية ـ الإسرائيلية إذا سجلت تقدّماً فإنه يصبح من المفيد والضروري للبنان ان يذهب بدوره إلى التفاوض مع إسرائيل، ما يعني انتفاء الحاجة إلى “الوظيفة الإقليمية” لـ”حزب الله” بدخول قضية مزارع شبعا مرحلة الحل الديبلوماسي الفعلي.
في أيّ حال، ان المسألة الآن ليست ان تنجح المحادثات السورية ـ الإسرائيلية أو لا تنجح، بل كونها تمثل متغيراً اقليمياً يُظهر قطيعة مع واقع كان سائداً في الشرق الأوسط حتى الأمس، وبالتالي تخلق نوعاً من التوتر مرده إلى ان كلاً من الشريكين السوري والإيراني لا مفر من ان يحاول توضيب أوراقه. ولا ننسى في هذا الشأن أنه إذا جاء الجمهوري جون ماكين إلى البيت الأبيض في واشنطن، فإنه سيعمل بالتأكيد على “تشليح” إيران أوراقها الاقليمية وأبرزها الورقة السورية الحيوية لجهة عملية الربط بالصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر “حماس” و”حزب الله”.
دعا الى المؤتمر المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية وقد انعقد خلال الفترة 27 ـ 28 آب (اغسطس)
المستقبل