آية الله كابوني
حنا عبود
عندما نعود إلى المساجلات التي اندلعت بين أنصار العمامة والطربوش، أو بين أنصار الطربوش والقبعة نسخر ونأسف ونحزن في آن معاً، لهذا الجهد الذي أنفق في أمور تافهة لم تحل مشكلة واحدة من مشاكل العرب، أدام الله عليهم هذا الاسم الذي يتاجرون به وبرمزيته، والذي لم يعودوا يملكون غيره، والذي سيصبح اسماً تاريخياً ينام بين طيات الكتب، مثل بقية الأسماء التي انقرضت أقوامها، الذين لم يبصروا العالم المتغيّر حولهم.
ولكن نرى أننا لا نزال نعيش هذه المعارك والمساجلات، بل انحدرنا إلى ما هو أسخف وأخطر بكثير. فما زلنا نتحدث ونتخاصم حول لباس المرأة ولباس الرجل والانشغال بمحاربة طواحين الهواء… في جوقات تطلق ترهات لا علاقة لها بفكر أو رأي أو إصلاح، كأن التخلص ممن نجعلهم خصوماً، خلاص من مشاكلنا، هذه المشاكل البسيطة جداً، التي نجعلها مستعصية على الحل، بسبب تبذلنا اللفظي، وانصياعنا لمثيري الفتن من الخارج، ومن الداخل أيضاً.
إن متصفحي الإنترنت اليوم يشهدون معارك طاحنة بين السنة والشيعة، فهناك عشرات المواقع السنية والشيعية (بالإضافة إلى عشرات الفضائيات) المشكوك بتمويلها، تنخرط كلها في الدفاع عما لا يحتاج إلى دفاع، وفي الهجوم على ما لا يحتاج إلى هجوم، إذ طرح هذه المسائل لن يدفع العرب خطوة واحدة في طريق التقدم… لأن كل ما يثيرونه ليس أكثر من هرطقة لفظية مريبة جداً، على العكس من المواقع (السنية والشيعية) الرصينة والموثقة، التي ليس فيها شيء من هذا القبيل. فهي تلتزم بتقديم وجهة نظرها، لا أكثر ولا أقل، بلغة هادئة وموقف مترفع عن الابتذال.
ويذهل المتصفح لهذا الهجوم على الخميني بألفاظ لا تليق بصاحب عقل. فهم يضعون عناوين لمواقعهم لا ترتفع عن السباب والشتائم. فيعكسون اللقب «آية الشيطان الكبرى، روح إبليس» ويكيلون التهم «فاجر بامتياز، حتى أنه… حلل الحشيش» «إرهابي»، «حلل البغاء» و«اتهم النبي بعدم تبليغ الرسالة» (معتمدين في ذلك على ما جاء في كتب الخميني من أن النبي لم يستطع تحقيق الحكومة التي يريدها، لذلك ترك المسلمين بلا حكومة) و«تعرّف على عقيدة هذا الهالك»… و«الخميني يعترف أنه أذهب عمره في طريق الضلال والجهالة» (معتمدين في ذلك على ما جاء في كتبه من أنه غير معصوم، ولن يكون تفسيره كاملاً، مثل أي مفسر، مطرياً على المفسرين السنة والشيعة ومنهم سيد قطب، معلناً أن التفسير الكامل لا يكون إلا لمن توافرت فيهم العصمة…)… الخ.
ومن الكبائر التي اقترفها الخميني ضد الإسلام اجتماعه بكبير أساقفة الأرمن أرتاك مانوكيان غداة نجاح الثورة وتحويل السفارة الأميركية إلى سفارة للسلطة الفلسطينية، وكذلك اجتماعه مع مطران القدس الكبوشي الذي سجنته إسرائيل بتهمة تهريب الأسلحة للفلسطينيين. وحتى «يوثقوا» كلامهم نشروا صور هذين الاجتماعين.
ولم يقفوا عند حدّ الدين، بل استغلوا كل شيء حتى السياسة، فأبرزوا بالخط العريض «صحيفة البرافدا الشيوعية تشيد بالخميني» صارخين بأن سياسة هذا الرجل معادية للإسلام بسبب قبول الشيوعيين لخطه المعلن… أوصاف وأوصاف كثيرة، نشك في أن يكون كتابها أنفسهم مقتنعين بها.
إذا خرج متصفح من هذه المواقع فسوف ينسى الموصوف، لكنه لن ينسى الأوصاف. وإذا حاول أن يستحضر الشخص الذي تنطبق عليه هذه الأوصاف، فلن يجد أفضل من ألفونس (أل) كابوني، غانغستر شيكاغو والمدن الأخرى. فهو إرهابي يتاجر بالحشيش والمواخير والمشروب والسلاح ويستخف بالدين، ولا يحترم رأساً كبيراً لا في الدين ولا في السياسة ولا في المجتمع… إنه يبيح كل شيء… كما أن بعض رجال الدين أطلقوا عليه لقب «الهالك». تهمة واحدة لن يجدها المتصفح في شخصية أل كابوني وهي الشيوعية.
لا يعثر المتصفح على كلمة واحدة تشير إلى مشكلة من مشاكلنا الكثيرة، فلا يجد فلسطين ولا الشرق الأوسط ولا إسرائيل ولا التخلف ولا ضعف الناتج القومي ولا مناهج التعليم ولا معاهد الأبحاث ولا التنوير ولا التطوير ولا الأدب ولا الفن ولا المسرح ولا ما يشير إلى إنسانية الإنسان…
ويكاد يعتقد أن الأمة الإسلامية المنتشرة في الأرض كانت بألف خير قبل ظهور آية الله كابوني، فلم تكابد التنابذ والتطاحن والصراع والتخلف وقمع السلطة وتبعية السياسة… آية الله كابوني فقط سبب كل هذا الذي نجده في الأمة الإسلامية. والقضاء على تأثيره كفيل بإعادة أمجاد العرب والإسلام، وحل مشكلة أفغانستان والعراق وفلسطين والترهل الإنتاجي والشرق الأوسط والشيشان وجورجيا وإسيتيا الجنوبية والشمالية…
إن هذا يذكرنا بالفكر المسيحي المنحط في العصور الوسطى، وبخاصة في القرن السادس عشر، قرن الإيمان، أو قرن المذابح بين الكاثوليك والبروتستانت، برعونة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. والواقع أننا دخلنا هذا العصر منذ زمن المتوكل، عندما تراجع العرب عن التأثير والفعل، وصاروا يبحثون في الغيب عن حل للواقع المرير الذي هم فيه. وعلى هذا فإن العرب من الشعوب الأطول مكوثاً في العصور الوسطى، التي ستتابع مسيرتها عندنا في انتظار فولتير جديد (!).
هل يقودنا قرننا السادس عشر إلى ما قاد القرن السادس عشر الأوروبي، من نهضة أدبية وفنية وظهور السياسة الواقعية التي تحل المشاكل ولا تخلقها؟ نشك في ذلك لسبب بسيط وهو أن الذين خاضوا تلك المعارك كانوا أصحاب فكر مستقل، لا عرّاب لهم، بينما مراكز عالمية وسياسات كونية تشرف على عصرنا الوسيط، وتجعله يستمر على هذه الصورة ما دامت مصالحهم تقتضي ذلك.
إن هذه المؤسسات تدير مباشرة المعركة والمتعاركين، فتموّل وتوجّه وتحرك و«ترشد» بحيث يعتقد أصحاب الألسن الصخابة أنهم يعملون بمحض إرادتهم، وإن استوطنوا العواصم الغربية، وتمتعوا برعايتها.
سوف تخلق الألفاظ الجوفاء نماذج كثيرة من آية الله كابوني، والغوغاء قابلون للتصديق… ومستعدون للمجزرة.
كاتب من سورية