الأزمة المالية العالمية

العالم يواجه الانهيار المالي العظيم

حسن شقراني
«خمسة أيّام من الضغط، الخوف وفي النهاية الفشل». هكذا عُنون أحد المقالات في صحيفة a«نيويورك تايمز»، يصف مرحلة ما بعد تأميم السلطات الأميركيّة عملاقي الرهون العقاريّة، «FREDDIE MAC» و«FANNIE MAE»، يوم الثلاثاء الماضي. مرحلة اعتُبرت أنّها ستريح النفوس في «وول ستريت» على أساس أنّ التقنين والتدخّل المالي الفيدرالي الأحدث، سيؤدّيان إلى استقرار اشتاقت إليه الأسواق الماليّة منذ اندلعت أزمة الائتمان وفقدان السيولة التي نتجت من انفجار فقّاعة الرهون العقاريّة.
فشل محاولات إنقاذية
ولكنّ الاستقرار لم يأت، وعلى العكس دخلت الأسواق الماليّة في حلقة ريبة جديدة، بسبب الأنباء عن أنّ المصرف الاستثماري الضخم، «LEHMAN BROTHERS»، يجهد لعدم السقوط في فخّ التقصير المالي. ومع حلول يوم الجمعة الماضي، دفعت جميع الإحداثيّات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لعقد اجتماع طارئ مع رؤساء المصارف الاستثماريّة والمؤسّسات الماليّة في «وول ستريت»، للبحث في خطّة يتمّ من خلالها إنقاذ المصرف العريق الذي يبلغ عمره 158 عاماً، والذي سجّل في الريع الأوّل من العام الجاري أعظم خسارة في تاريخه، بلغت 4 مليارات دولار، لترفع إجمالي الخسائر منذ بداية العام إلى 6.5 مليارات دولار.
إلا أنّ الاجتماعات المكثّفة ومفاوضات الإنقاذ القائمة على خيارات الاستحواذ أو المساعدة لم تنجح. والمحادثات الأخيرة التي كان من الممكن أن تؤدّي إلى بقاء المصرف مؤسّسة مستقلّة فشلت، واستفاقت «وول ستريت» أمس، على إعلان المسؤولين في المصرف المتعثّر، أنّهم سيقدّمون طلب إفلاس، تحت المادّة 11 من القانون المالي، التي تمنح المؤسّسة (المصرف) اللاجئة حقّ عدم تسديد المستحقّات للمقرضين، وتسلّم السلطات الفيدراليّة زمام الأمور.
للوهلة الأولى يذكّر المشهد بانهيار المصرف الاستثماري العملاق، «BEAR STEARNS»، وكيف تدخّل الاحتياطي الفيدرالي لمساعدة مصرف «JP MORGAN» من خلال مدّه بـ29 مليار دولار لتأمين الاستحواذ. ولكن «LEHMAN BROTHERS» لم يتمّ إنقاذه. واكتفت «النشاطات الإنقاذيّة» للحكومة الأميركيّة خلال عشرة أيّام بتأمين 200 مليار دولار لـ«FREDDIE MAC» و«FANNIE MAE».
إنقاذ MERRIL LYNCH
وأكثر من ذلك، فإنّ أفق «وول ستريت» كان أشدّ سوداويّة أمس، ممّا كان يمكن أن تكون حالة «تعثّر عاديّ لمصرف». فقد تزامن مع لجوء «LEHMAN BROTHERS» إلى الإفلاس، إعلان المصرف الاستثماري الضخم، «MERRIL LYNCH»، أنّه وافق على بيع أصوله إلى مصرف «BANK OF AMERICA»، بقيمة 50 مليار دولار، من أجل تجنّب استفحال أكثر للأزمة الماليّة التي تعصف بالبورصات من دون هوادة.
وبحسب التقارير الإعلاميّة، يتضّح أن خطوة «MERRIL LYNCH» كانت احترازيّة لتجنّب «هجوم المضاربين». فخلال محادثات إنقاذ «LEHMAN BROTHERS»، نصح المسؤولون الفيدراليّون «BANK OF AMERICA» بغضّ النظر عن الصفقة والتطلّع لشراء المصرف الأوّل. والسبب بسيط ويعود إلى موضوع الانكشافات على المصرف الذي أشهر إفلاسه بسبب أعباء 60 مليار دولار من الرهون العقاريّة…. ولكن!
… وشركات أخرى مهدّدة
«MERRIL LYNCH» لم يكن الوحيد الذي كان مكشوفاً انكشافاً فاضحاً على المصرف المفلس. فشركة التأمين الأميركيّة العملاقة، «AMERICAN INTERNATIONAL GROUP»، معرّضة لانعكاس مخاطر انهيار «LEHMAN BROTHERS» عليها. وهي تسعى إلى الحصول على قرض قيمته 40 مليار دولار من الفيدرالي الأميركي، لمواجهة إمكان تقليص درجتها في السوق وإمكان انهيار سعر سهمها، بعدما انخفضت قيمته بنسبة 80 في المئة!
وهذا التهديد الإضافي للسوق، يدعو إلى عدم اليقين من إمكان تأمين استقرار على المدى القريب. ويدفع نحو توقّع اختلالات في المؤسّسات الماليّة حول العالم، وتعرّضها لخسائر إضافيّة، وخصوصاً أنّ مصرفاً استثمارياً عملاقاً آخر، مهدّد بالانهيار هو «WASHINGTON MUTUAL».
هي حلقة تعبّر عن الارتباط الوثيق بين المؤسّسات الماليّة في السوق الأميركيّة، وبين تلك المؤسّسات نفسها مع بورصات العالم. فالصباح المشؤوم الذي استفاقت عليه «وول ستريت» أمس، لم يترجم انهياراً في مؤشّراتها الرئيسيّة فحسب، بل امتدّ ليغرق بورصات العالم في دوّامة تراجع أسعار الأسهم.
هذا النمط من التراجع ليس مفاجئاً في البورصات العالميّة، إلّا أنّ المميّز في حالة «LEHMAN BROTHERS» هو أنّ إفلاسه يعدّ الأقسى الذي ولّدته أزمة الائتمان (CREDIT CRUNCH). فبعدما محت المؤسّسات الماليّة في «وول ستريت» أكثر من 500 مليار دولار من قيمة الأصول المتعلّقة بالرهون العقاريّة عالية المخاطر (أي تلك الممنوحة لزبائن ليست مؤكّدة إمكانيّة سدادهم لأقساطهم في ظلّ ارتفاع مستقبلي لأسعار الفوائد)، بدأ الحديث يدور عن هدوء نسبي في الأسواق. ولكن التطوّرات التي عصفت بالأسواق أمس، خلطت الأوراق من جديد لتبعث روحاً في نبوءة «صندوق النقد الدولي» القائلة بأنّ الخسائر المتعلّقة بأزمة الرهون العقاريّة ستقارب الـ1 تريليون دولار.
خليل: فقدان الشفافيّة والجشع
ويعزو المحلّل في مؤسّسة «WMG FUNDS» في لندن، حسن خليل، الانهيارات الحاصلة في أسواق المال العالميّة، إلى أسباب مباشرة متمثّلة بفقدان الشفافيّة وجشع السياسيّين والمسؤولين الماليّين والإقراض غير المسؤول. ويفنّد العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى وصول النظام الرأسمالي إلى هذه المرحلة من خلال مقولة أنّ هذا النظام «يعاني من طمع الأفراد ورؤساء الشركات في تحقيق أرباح والإعلان عن أرباح معيّنة». ويقول إنّ الأسباب التي أدّت إلى هذا الانهيار هي «الإقراض غير المسؤول في القطاع العقاري، والإقراض غير المسؤول عبر بطاقات الائتمان. وتسليفات العطاء غير المسؤولة إلى الشركات. النموّ غير المسؤول لصناديق التحوّط. غياب الرقابة التي كانت تدّعي السلطات المالية أنّها موجودة، لأنّ كلّ دولار من رأسمال المؤسّسات الماليّة يقابله 33 ضعفاً من المخاطرة على الدفاتر، ما يشير إلى ارتفاع قياسي في نسبة الانكشاف على المخاطر».
وبالتالي يتساءل خليل: «كيف تفسّر أن يستطيع موظّف عمره 32 عاماً أن يعرّض مصرفه لمخاطرة بـ50 مليار يورو وخسارة 8 مليارات يورو»، وذلك في إشارة إلى موظّف مصرف «SOCIETE GENERAL»، جيروم كيرفييل. ففي أوقات البحبوحة لم يكن أحد يسأل عن العواقب وآثر الجميع الإقراض الفاحش غير المسؤول للأفراد والشركات والدول».
الرأسمالية أمام خيار صعب
أمّا تداعيات ما حصل في «وول ستريت»، فهي تتمثّل بحسب خليل، في مقولة أساسيّة هي أنّ «النظام الرأسمالي أمام خيار صعب، هو التخلّي عن مبدأ عدم التدخّل في الأسواق وتركها تقرّر توازنها الذاتي. وبالتالي لا بدّ من خلق جهد مشترك فوري بين الأنظمة الغربيّة وروسيا والدول النامية كالصين وسنغافورة لخلق صندوق كبير يعالج بطرق تقنيّة معيّنة أزمة القروض المتعدّدة الأوجه، وأن يبدأ تبلور النظام المصرفي العالمي الجديد».
ومن هذا المنطلق يتجدّد ظهور جدل، كان قد ولد منذ زمن طويل، حول إمكانيّة النظام الرأسمالي، بأسواقه الماليّة المعقّدة، من موازنة نفسه بنفسه من دون تدخّل سلطات الرقابة وتطبيق إجراءات التقنين. فالقيّمون على الاقتصاد في الولايات المتّحدة، من رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بن برنانكي، إلى وزير الخزانة هنري بولسون، بذلوا جهوداً مضنية لمواجهة الأخطار المحدقة باقتصادهم، وبالاقتصاد الكوني. ولكن من دون جدوى.
وبالتالي تصبح معقّدةً جداً عمليّة مراقبة سوق مثل سوق المشتقّات الماليّة (DERIVATIVES) التي يبلغ حجمها 50 تريليون دولار. وحتّى المؤسّسات الماليّة الضخمة التي تجني الأرباح الطائلة جرّاء حركيّة تلك السوق، تجد نفسها مكتوفة الأيدي أمام إمكانيّة إيجاد حلول للنفاذ من «شرك الرأسماليّة».
مرحلة ركود حتمي
ولكن تكرار الفشل المالي في «وول ستريت» لا يفترض فقط إعادة هيكلة للأسواق من خلال منح سلطات الرقابة هامشاً أوسع لـ«الإرشاد» و«تقسيم الأدوار!» (إذا كان ذلك ممكناً في المدى القريب). فخلال العامين الماضيين، أي منذ بدء ظهور الملامح الأولى للأزمة في سوق الرهون العقاريّة الأميركيّة (مع نهاية عام 2006) والاقتصاد العالمي يدخل تدريجاً مرحلة من الركود، استفحل لدرجة أنّه أصبح مصحوباً بتضخّم بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة والطاقة والمواد الأوليّة.
إذاً، فما يمكن توقّعه في المدى القصير هو عودة تراجع مؤشّرات النموّ في البلدان الصناعيّة، التي كانت انتعشت إلى حدّ ما خلال الفترة الأخيرة (وتحديداً في الولايات المتّحدة مع انتقال «الأعراض» إلى أوروبا)، نتيجة الحديث عن أنّ «الأسوأ من أزمة الائتمان قد انتهى». وبالتالي فإنّ إشارة الاقتصاديّين إلى الانكماش العالمي ستطرح بقوّة خلال الفترة المقبلة، وخصوصاً أنّ العديد من المراقبين يشبّهون، بهامش كبير من المقاربة، ما يحدث الآن، بالكساد العظيم الذي ضرب الأسواق الماليّة في نهاية العقد الثالث من القرن الماضي، وبداية سنوات الثلاثينيّات منه. كما أنّهم يتحدّثون عن كيف أنّ نوعيّة الأحداث التي تضرب البورصات العالميّة، تشبه إلى حدّ بعيد انهيار المنظومة الاشتراكيّة في الاتحاد السوفياتي عام 1989.
صندوق بـ 70 مليار دولار
بعد محادثات مكثّفة مع مسؤولين حكوميّين، أعلن كونسورتسيوم مصارف دوليّة، إنشاء صندوق بقيمة 70 مليار دولار، يستعان به لإقراض المؤسّسات الماليّة التي تعجز عن تأمين المتوجّبات عليها، وذلك بهدف تجنّب «رعب عالمي» حول أسعار الأسهم وأداء البورصات العالميّة. ويضمّ التجمّع عشرة مصارف هي BANK OF AMERICA»، «BARCLAYS», «CITIBANK CREDIT SUISSE», «DEUTSCHE BANK», GOLDMAN SACHS», «JP MORGAN», MERRILL LYNCH», «MORGAN STANLY», «UBS. وكلّ منها سيؤمّن 7 مليارات دولار لتوفير السيولة في الأسواق الماليّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى