إيديولوجيا الليبرالية الجديدة في عراء الاقتصاد الافتراضي
مطاع صفدي
هل صار يحق لمثقفي اليسار أن يطرحوا تساؤلهم التاريخي المركزي حول مصير الليبرالية الجديدة كإيديولوجيا بعد فضيحة الاقتصاد الافتراضي الذي يشكل عمودها الفقري. فلا شك أن صعود الليبرالية الجديدة لم يكن ليمثل قمة السياسة الدولية لو لم يقترن بالنجاحات الفلكية لمقامرات الاقتصاد الافتراضي.
لو لم تخضع أسواق المال عالمياً لمركزية وول ستريت، وعمالقة الاستثمار الورقي والرقمي وهم من حديثي النعمة إجمالاً، الناشئين والمنشئين لأساطير الاقتصاد الافتراضي. فالليبرالية الجديدة أخذت على عاتقها أدلجة هذه الظاهرة، وحولتها إلى استراتيجية شمولية، بحيث ستكون هناك كذلك ظاهرة السياسة الافتراضية التي لن تقبل بأقل من مساحة العالم ساحةً لمغامراتها العسكرية وليس الدبلوماسية فقط. وأما الثقافة الافتراضية كظاهرة تابعة للـ (ما يحدث الكوني) فلن تغدو أكثر من ثقافة القشور في الفكر والفن والإبداع عامة. فكان ذلك عصراً متكاملاً حقاً لأعراض الليبرالية الجديدة ما دام اقتصادها قادراً على إنتاج عالم مرآوي باذخ بالصور والألوان والأضواء، حاجب لعالم الأصول والحقائق والمشكلات الحيوية لإنسانية الألفية الثالثة.
كانت نظرية (الشبكية الشمولية) تريد تغطية وجه المعمورة بما يشبه الشبكة العنكبوتية التي تتخطّف الملامح التفصيلية لأية أزمة دولية كبرى، وتفرض على استعصاءاتها حلولاً وهمية موقتة. كان تاريخ الحاضر الكوني ممنوعاً عليه فهمُ تحولاته المصيرية نحو مستقبله البائس الذي ينتظره، دون أن يتاح لوعي المجتمع العالمي التفكر المنظم بمقدمات الكوارث القادمة. فالاقتصاد الافتراضي لم يستوعب اقتصاد أمم الغرب والشرق معاً في حاسوبه المركزي وحده، بل أراد لهذا الحاسوب أن يختزل اقتصاد السياسة والدفاع والثقافة، ويجعلها من (مدخلاته) الترميزية. كان مشروعه ولا يزال يعمل وفق المعادلة القائلة أن أية امبراطورية طريقها الوحيد هي إمبراطورية المال. وعندما تتحقق فلا يهم أن تكون تابعة لأية دولة أو أمة. حتى أمريكا وأوروبا تغدو من توابعها أو أتباعها المقدمين. أي أن سلطة المال لا هوية لها ولا وطن إلا حيثما تتصاعد أو تتهابط أرقامها. من هنا يمكن فهم تحرك (الدول) فجأة، كأنها تستيقظ من سبات عميق. فيبدو كأنها تؤسس لحلف جديد ضد هذا الاقتصاد الافتراضي الهازئ بكل سلطة، حتى لو كانت هابطة عليه من حكومات أوطانه الأصلية. تستيقظ (الدولة) فجأة، ولكن بعد أن غدت مؤسسة الصيرفة تمثل السلطة الرابعة المهددة بإلغاء نفوذ واستقلال السلطات الثلاث التقليدية، التشريعية والتنفيذية والقضائية. أما الإعلام الذي كان يُمنح عنوان السلطة الرابعة شرفياً، فلم يتبق له إلا بعض الامتياز الفائض من المتبوع على التابع. فهناك من يحتج رافعاً صوتاً متبقياً من أيام الإعلام الحر في الغرب الأوروبي، متلفظاً بعبارة: ديكتاتورية المال. لكن هذه الديكتاتورية إنما تجد حمايتها خلف إيديولوجيا الليبرالية الجديدة، وهذه قد أمست بدورها سيدة الإعلام التداولي اليومي. فلها ديكتاتوريتها الخاصة بها، وإن جاءت مقنّعةً بالمرآوية اللفظوية المعهودة، التي مهمتها الأساسية تفريغ كل ظاهرة عامة من دلالتها الأصلية.
هل سوف يقال ان الليبرالية الجديدة جاءت تحريفاً لليبرالية (السوية؟) بالتوازي مع سيطرة الاقتصاد الافتراضي كتحريف للاقتصاد الواقعي. وأنه من المتوقع بالتالي أن ينتهي أو يتزعزع هذان البناءان المتقابلان والمتكاملان في الضرّاء كما كانا إبان مرحلة السرّاء. لكن ليس من طبيعة الإيديولوجيا أن تتهاوى ما أن تفقد بعض راهنها على أرض الواقع. فهي كإيديولوجيا تتجاهل أصلاً معقولية الواقع، فتعمل دائماً على تقديم أطروحاتها كما لو كانت من صنع استراتيجية تغيير متطلعة إلى المستقبل الأفضل دائماً. حتى أنها لا تهتم بالنكسات أو الهزائم. وتعتبرها مجرد أخطاء قابلة للمراجعة والتصحيح. هكذا يسيطر على الأزمة المالية الراهنة فكر الترقيع. فالطبقة السياسية الأمريكية، ومعظم أشباهها في أوروبا، تمارس التعامي عن جوهر الأزمة. وقد يحاول البعض منها أن ينهض بأيديولوجيا الليبرالية الجديدة إلى مستوى عقيدة الغرب بذاته ومصيره. ولكن دون أن يبرز مدافعون حقيقيون بالمقابل عن ذلك الغرب الآخر الذي دأبت نخبة المناصرين لنموذج المدنية الإنسانية، على التذكير به والسعي إلى تصحيح تلك العقيدة المتيبسة، تحت طائلة التكيف الإرادوي مع فجائية الأزمات البنيوية، المستهدفة لكلية النظام الاجتماعي القائم. فالإعصار المالي تهديد للمجتمع من داخله لا يقل خطراً عن حرب خارجية مداهمة. والدفاع ضده صار يتطلب استنفاراً وطنياً شاملاً لقوى الأمة جمعاء. لذلك لا يرى المراقبون الواعون أن خطة الإنقاذ البوشية ستجيء بالحلول النهائية. حتى لو أخذت هذه الخطة طابع التأميم المشتق من التدابير الاشتراكية. فالدولة تهبُّ إلى نجدة بعض المؤسسات العملاقة من الإفلاس المحقق باسم حماية نظام الاقتصاد الأمريكي ككل، لكن دون أن تفسح المجال لطرح الأسئلة الموضوعية عن العلل الحقيقية الكامنة في أصوله. وهي كانت مقدمات الزلزال الحالي، كما ستكون هي وتراكماتها الآتية مداخل لزلازل مستقبلية محتومة أخرى.
إن تعرية إيديولوجيا الليبرالية الجديدة من أقوى براهينها الواقعية المادية، مع افتضاح الاقتصاد الافتراضي عند أربابه وعملائه أنفسهم، قد تكشف عن تهافت أفكاره الحركية، مترافقاً مع سقوط حصونه المالية الكبرى، وانتقالها دفعة واحدة من سلطة القطاع الخاص إلى الانضواء تحت مظلة الدولة. لكن، وهنا المفارقة، إذ يغدو التأميم في خدمة القطاع الخاص. أي أن المال العام هو الذي عليه من الآن فصاعداً أن يضمن الأرباح المعهودة للثروات الفلكية الفردية عينها، مانعاً عنها تكرار الخسارات الكبرى. ذلك هو منطوق الاعتراض المحوري على حيثيات خطة الإنقاذ. كأن الأزمة لم تغير شيئاً من آليات نظام الاستثمار السائد الذي ثبت فساده اقتصادياً ومالياً، بل أضافت إليه مكسباً بالغ الأهمية إذ أدخلت إلى خلفيته المعيارية ضمانةَ الدولة، والغَرْف من المال العام. ما يتيح لمغامرات المضاربة أن تبلغ أقصى مداها، دون أن تخشى من عواقب الفشل أو المحاسبة القانونية. هذا السيناريو لن يكتب له التحقق إلا إذا كانت الرأسمالية الأمريكية لا تزال تتمتع بتلك القوة اللامحدودة لنظامها السياسي، من أجل الاستمرار في فرض الأولوية للاقتصاد الافتراضي على الاقتصاد الواقعي، بالرغم من افتضاح أسطورة الأول، وانكشاف هشاشته الحالية. فالحاجة إلى الاستنجاد بالليبرالية الجديدة كإيديولوجيا تتضاعف دواعيها في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الرأسمالية الأمريكية. إذ سيكون عليها أن تخترع التغطية الفكروية لعثرات الجنوح الافتراضي إلى مهاوي التضليل اللاأخلاقي. فيقول جورج سوروس المضارب على انتحال صفة الفيلسوف ضداً على صفة المضارب الملياردير أن خطة الإنقاذ هي شر لا بد منه. إنها إذن الحاجة إلى إشراك الدولة عملياً في مصطلح: المشروع الحر، الذي لن يبقى حراً، أو شأناً خاصاً فحسب.
وعلى هذا ربما دخلت أمريكا في حقبة الاقتصاد المختلط. ربما ستكون توأماً آخر لتجربة الصين الشيوعية الرأسمالية. وعند ذلك ستعمد إيديولوجيا الليبرالية الجديدة إلى إلغاء ثوابتها العقائدية واحداً بعد الآخر. فالمناداة على شعار ‘الانفاق الجديد’ New Deal مرة ثانية بعد أن كان رفعه الرئيس روزفلت لوضع حد لكارثة الإفلاس العام (1929)، يطلقها سوروس، كواحد من واجهة الطبقة الرأسمالية للحزب الديقراطي؛ وهي كانت لها دلالة واحدة: إقحام الدولة كأكبر شريك مضارب في صميم عمليات السوق. وقد بقيت هذه الحالة من تشابك القطاعين العام والخاص سائدة طيلة عقود ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها حتى فترة الركود الاقتصادي في ضفتي العالم الأنكلوأمريكي، خلال حقبة حكم ثاتشر في بريطانيا، وشريكها العقائدي الرئيس ريغان في البيت الأبيض. فهما صاحبا الإعلان الرسمي عن نشأة الليبرالية الجديدة. فكانت إيذاناً بانفكاك السوق عن الدولة، ما يبعد الاقتصاد عن رقابة الشأن العام، يخرجه عملياً من دائرة الأخلاق الفردية والقانون في وقت واحد. ولم يصل هذا الانفكاك إلى حدوده القصوى إلا مع ثورة العولمة المقترنة بانتشار شبكية المعلوماتية ما فوق حدود الدول والحضارات المعاصرة، بحيث يمكن للمال أن ينشئ إمبراطوريته الدولية ممهداً للإمبراطورية السياسية والعسكرية التابعة لهيمنة الفئة القليلة من سلاطين المال الممسكين بمفاتيح لعبة العولمة أصلاً والمخترعين لفنون أضاليلها، وفي مقدمتها أساطير الاقتصاد الافتراضي.
في ظل هذه الموجة العارمة من التضليل الكوني، كان على إيديولوجيا الليبرالية الجديدة أن تحيِّدَ كل رقابة فكرية واجتماعية على مخططاتها وتصرفاتها، أن تغرق مجتمعاتها الغربية في ثقافة النزعات الفردوية وتعزل نُخَبها عن الاهتمامات السياسية. كانت تهاويل الرخاء الظاهري قادرة على طمس الخارطة التقليدية لتوزع النخب وجماهيرها ما بين قطبي اليمين واليسار. أضحى اليسار الغربي أشبه بأركيولوجيا العصور القديمة المنقضية. وأما اليمين فقد تخلى عن الحدود الدنيا من رعاية المصالح العامة التي كان يلتزم بها حفظاً لبقية سمعة تقليدية وطنية. وكانت الدول المتبعة لنظام الرعاية الاجتماعية كفرنسا وألمانيا، تنتظر الفرصة السياسية الملائمة للتخلي عن مؤسسات هذا النظام وتسليمها للقطاع الخاص على غرار ما هو عليه الوضع في أمريكا. فهل يمكن التفاؤل بأن كل هذه التحولات البائسة، التي كانت سارية المفعول كالنار في الهشيم تحت ألوية الليبرالية الجديدة، سوف تشهد انقلابات استراتيجية تستهدف أفكارها المحمولة على أجنحةَ أوهام صناعة المال وحدها ضداً على كلِّ صناعة إنسانية أخرى.
لن تكون هزيمة الإيديولوجيا الليبرالية المعولمة نتيجة آلية لافتضاح آليات الاقتصاد الافتراضي، وإن كانت هذه العاصفة المالية قد هزَّت جذورَها، وجرَّدتها من أقوى أسلحتها أو براهينها المادية المتجلية في عمليات السوق الورقية. فالأرقام الفلكية التي تتقاذفها يومياً هذه الظاهرات كانت تبهر عيون العالم وتشلُّ عقلَه المفكر، وتلجم ألسنة الناقدين الواعين تحت وطأة إعلام الاستبداد بالصورة والصوت والمعلومة الموتورة. كانت تلك بعض أعراض التنويم الجماعي المنظم. وكاد الغرب الأوروبي نفسه أن يتخلى عن أصول مقاومته الحضارية ويتحول مثقفوه إلى أبواق في أوركسترا الأمركة الغازية.. وها هو اليوم يحاول يَقَظَةً صعبةً من حال التنويم الفكري؛ فتبدأ عاصمته باريس بقيادة الصحوة الإعلامية أولاً. ترمي قفاز التحدي في وجه الليبراليين الصاعدين إلى غالبية منابر المعلومة والرأي والشائعة.
إنها ملامح انقلاب أو نوع من ثورة ثقافية جديدة قد تعلن حرباً مفتوحة ضد إيديولوجيا الاقتصاد الورقي المعولم. وقد لا تتنبه لها سريعاً طلائعُ المجتمعات العربية والإسلامية، الأصلية، المحجوبة إما وراء السلفيات أو الليبراليات المسطحة، أو هما معاً في وقت واحد. لكن اللحظة العالمية الراهنة هي لهذه الثورة الثقافية على آخر إيديولوجيات القرن العشرين. فلن يتابع القرن الواحد والعشرون دخوله من الباب الغلط، الذي كان اسمه الليبرالية الجديدة. ولعله يهتدي إلى الباب الصحيح قبل فوات الأوان.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي