أحزان الإنقاذ
د. جوزيف ستيغليتز
إن الأمر لا يحتاج إلى عبقري لكي يدرك أن النظام المالي في الولايات المتحدة- بل والعالم أجمع- يعاني فوضى شديدة. والآن بعد أن تأرجح مجلس النواب في الولايات المتحدة في قبول خطة الإنقاذ التي اقترحتها إدارة بوش، والتي كان من المفترض أن تتكلف سبعمائة مليار دولار أميركي، بات من الواضح أيضاً غياب الإجماع حول كيفية إصلاح هذه الفوضى.
كانت المشاكل التي يعانيها اقتصاد الولايات المتحدة ونظامها المالي واضحة لأعوام طوال. بيد أن ذلك لم يمنع قادة أميركا من طلب الغوث من الأشخاص أنفسهم الذين ساعدوا في خلق هذه الفوضى، والذين عجزوا عن رؤية المشاكل الواضحة إلى أن أصبحنا على وشك الانزلاق إلى أزمة اقتصادية عظمى أخرى، والذين ظلوا يتنقلون بين عملية إنقاذ وأخرى.
في ظل الهبوط الحاد الذي تشهده أسواق العالم الآن، فلا شك أن خطة الإنقاذ سوف تطرح مرة أخرى على الكونغرس للتصويت عليها. وقد ينجح هؤلاء الجهابذة في إنقاذ بورصة وول ستريت للأوراق المالية)، ولكن ماذا عن الاقتصاد؟ ماذا عن دافعي الضرائب، المحاصرين بأشكال العجز المالي كافة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، والذين بات لزاماً عليهم أن يتحملوا فاتورة البنية الأساسية المعتلة وتكاليف حربين؟ وهل من الممكن لأي خطة إنقاذ أن تنجح في ظل هذه الظروف؟
لا شك أن خطة الإنقاذ التي رُفِضَت في باديء الأمر كانت أفضل كثيراً مما اقترحته إدارة بوش في الأصل، بيد أن الخط الأساسي الذي تبنته هذه الخطة كان معيباً بكل تأكيد. إذ إنها تعتمد في الأساس- مرة أخرى- على نظرية المنافع الهابطة من القمة إلى القاع: وكأن ضخ الكم الكافي من الأموال إلى شرايين وول ستريت سوف يعود بالنفع على صغار تجار التجزئة والمستهلكين من العاملين ومالكي المساكن العاديين. بيد أن هذه النظرية لم تنجح قط، وليس من المرجح أن تنجح هذه المرة.
فضلاً عن ذلك فقد افترضت الخطة أن المشكلة الأساسية هي في الواقع مشكلة ثقة. ولا شك أن مسألة الثقة تشكل جزءاً من المشكلة؛ بيد أن المشكلة الأساسية تتلخص في القروض بالغة الرداءة التي قدمتها الأسواق المالية. ففي ظل فقاعة الإسكان التي ظلت تنتفخ طيلة الأعوام الماضية قدمت الأسواق المالية قروضاً على أساس أسعار متضخمة.
ثم انفجرت تلك الفقاعة فهبطت أسعار المساكن، ومن المرجح أن تستمر في الهبوط. وهذا يعني المزيد من حالات حبس الرهن العقاري، ولن يغير هذه الحقيقة أي قدر من الخطب البلاغية الرامية إلى تنشيط السوق. ولقد أدت هذه القروض الرديئة بالتالي إلى خلق ثغرات هائلة في دفاتر موازنة البنوك. وعلى هذا فإن أي خطة إنقاذ حكومية لن تفعل شيئاً لإصلاح هذه الثغرات رغم حرصها على تقديم القيمة العادلة لهذه الأصول. بل إن العكس هو الصحيح، فالأمر يشبه نقل كميات هائلة من الدم لمريض يعاني نزيف داخلي حاد.
وحتى لو تم تطبيق خطة الإنقاذ بالسرعة الكافية، فلابد أن تصاب سوق الائتمان بالانكماش. كان اقتصاد الولايات المتحدة مستنداً إلى موجة من الازدهار الاستهلاكي الذي تغذى على الإفراط في الاقتراض، ولسوف يتوقف هذا الميل بكل تأكيد. ولقد بدأت الولايات والمحليات بالفعل في تقليص إنفاقها. كما أصبحت دفاتر موازنة الأسر الأميركية أوهن حالاً. ولسوف يؤدي التباطؤ الاقتصادي إلى تفاقم مشاكلنا المالية كافة.
الحقيقة أننا نستطيع أن نفعل المزيد بتكاليف أقل. فلابد من سد الثغرات في دفاتر موازنات المؤسسات المالية على نحو يتسم بالشفافية. ولقد أضاءت لنا الدول الاسكندنافية هذا الطريق منذ عقدين من الزمان. كما أظهر لنا وارين بوفيت وسيلة أخرى، حين زود مؤسسة «غولدمان ساكس» بصافي الأصول. فبإصدار أسهم تفضيلية بضمانات (خيارات أسهم) يصبح بوسعنا تقليص عامل المجازفة بالنسبة لعامة الناس، وضمان اشتراكهم في تحصيل المنافع المحتملة.
إن هذا التناول ليس مؤكد النجاح فحسب، بل إنه يقدم أيضاً الحوافز والموارد اللازمة للاستمرار في الإقراض، كما أنه يجنبنا المهمة المستحيلة المتمثلة في محاولة إعادة تقييم الملايين من قروض الرهن العقاري والمنتجات المالية الأكثر تعقيداً التي أصبحت هذه القروض مطمورة داخلها، كما أنه يجنب الحكومة التورط في شراء أردأ الأصول أو أكثرها مبالغة في تحديد قيمتها. وأخيراً فإن هذا التناول يسمح لنا بالانتهاء من هذه المهمة بسرعة أكبر.
وفي الوقت نفسه نستطيع اتخاذ بعض الخطوات لتقليل عمليات حبس الرهن العقاري إلى أدنى حد ممكن. فبوسعنا أولاً أن نجعل المساكن في متناول الأميركيين من الفقراء وأصحاب الدخول المتوسطة عن طريق تحويل الخصم في قيمة الرهن العقاري إلى رصيد ضريبي يمكن صرفه نقداً. فالحكومة في واقع الأمر تتحمل 50% من فوائد قروض الرهن العقاري والضرائب العقارية لمصلحة الأميركيين من أصحاب الدخول العليا، إلا أنها لا تقدم شيئاً للفقراء. ثانياً، لابد من إصلاح قانون الإفلاس من أجل السماح لملاك المساكن بتخفيض قيمة مساكنهم والبقاء بها. ثالثاً، تستطيع الحكومة أن تتحمل جزءاً من الرهن العقاري، والاستفادة من تكاليف قروضه المتدنية.
في المقابل، سوف نجد أن التوجه الذي تبناه وزير خزانة الولايات المتحدة هنري بولسون يشكل نوعاً آخر من ألعاب الثلاث ورقات التي أوقعت أميركا في هذه الفوضى. كانت بنوك الاستثمار ووكالات تقييم الديون تؤمن بكيمياء المال- وهي فكرة مفادها أن تشريح وتقطيع الأوراق المالية من شأنه أن يؤدي إلى زيادة قيمتها. أما النظرة الجديدة فتزعم أن القيمة الحقيقية تنتج عن جمع الشرائح والقطع في كيان واحد من جديد- أو بعبارة أكثر دقة سحب هذه الأصول من النظام المالي وتحويلها إلى الحكومة. بيد أن هذا يتطلب دفع قيمة مبالغ فيها لهذه الأصول، ولن يستفيد من هذا سوى البنوك.
في حالة تسيير مثل هذه الخطة في النهاية فإن الاحتمال الأرجح أن يظل دافعو الضرائب الأميركيين معلقين بلا منقذ. إن الاقتصاد البيئي يشتمل على مبدأ أساسي يتلخص في تحمل كل من يتسبب في تلوث البيئة التكاليف المترتبة على تنظيف ذلك التلوث. ولقد تسبب أباطرة وول ستريت في تلويث الاقتصاد بقروض الرهن العقاري الفاسدة. ويتعين عليهم أن يتحملوا تكاليف التنظيف الآن.
هناك إجماع متزايد بين خبراء الاقتصاد على أن أي عملية إنقاذ تستند إلى خطة بولسون لن يحالفها أي قدر من النجاح. وإذا كان الأمر كذلك فلسوف تتآكل الثقة في هذه الخطة ويتجلى ضعفها نظراً للزيادة الضخمة في الدين الوطني نتيجة لتطبيقها، فضلاً عن إدراكنا أنه حتى السبعمئة مليار دولار لن تكون كافية لإنقاذ اقتصاد الولايات المتحدة.
ولكن من المستحيل أن يقف الساسة موقف المتفرج في مثل هذه الأزمة. لذا، فلنبتهل إلى الرب أن يؤدي الاتفاق المعقود مع ذلك المزيج السام الذي يتألف من أصحاب المصالح الخاصة وخبراء الاقتصاد المضللين وأصحاب الإيديولوجيات من جناح اليمين، والذي أنتج هذه الأزمة في الأساس، إلى التوصل على نحو ما إلى خطة إنقاذ ناجحة- أو خطة لا يؤدي فشلها على الأقل إلى المزيد من الضرر.
يبدو أن تقويم الأمور وتصحيح الخلل- بما في ذلك إنشاء هيئة تنظيمية جديدة تعمل على تقليص احتمالات تكرار مثل هذه الأزمة- أصبح الآن من بين المهام العديدة التي سترثها الإدارة الجديدة القادمة.
* أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كولومبيا، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 2001
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»