موت بالسكتة المالية
دانييل كورسكي
هددت عالمنا في العقدين الماضيين عدة سكتات بدءاً من الدماغية وهي الأفكار، مروراً بالقلبية وهي الوجدان والعاطفة وانتهاء بالاقتصادية التي تحولت إلى اعصار ينافس أشد الأعاصير في التدمير وإلحاق الأذى.
في نهاية العشرينات من القرن الماضي شهدت الولايات المتحدة أزمة اقتصادية طاحنة، بحيث أصبح الناس لا يفكرون إلا بالأزمة والتضخم القاتل إلى الحد الذي كان من يكتب مقالاً أو رواية غير شجن آخر غير الأزمة الاقتصادية يعتبر خائناً وعاقاً للأمة، لهذا تحولت رواية بعنوان “عودة مدام اندروس” للروائي ثورنتون وايلدر إلى أمثولة في الفرار من الواقع إلى الخيال.
أما زمن العولمة فإن ازماته سواء كانت اقتصادية أو اخلاقية سرعان ما تتحول إلى وباء كوني لا يسلم منه القاصي والداني على السواء، لهذا تتعالى الآن صرخات الاستغاثة على امتداد الغرب والشرق، لكن المغيث مرتبك ويضرب أخماس ملياراته بأسداس مديونياته وما من بشارة تلوح في الأفق.
قبل أشهر قليلة غرق العالم كله في سجال حول الغلاء الفاحش والمتفاقم، وثمة من قرعوا الأجراس قائلين إن السبعة أعوام المقبلة حتى عام 2015 ستكون عجافا بكل المقاييس وبذلك حولوا اليأس إلى قنوط، واسلمت مليارات الجائعين والمشردين أمرها للسماء بعد أن ضاقت بها الأرض. وإذا كان هناك أصحاء يعانون من فائض اللحم والشحم يموتون بالسكتة الدماغية أو القلبية فإن امبراطوريات مترامية الأطراف والأرداف معاً قد تموت بالسكتة المالية، أي السكتة الاقتصادية التي تتعدد اسماؤها تبعاً لمعجم الأزمات.
وبامكان أي مراقب لهذا الاعصار الاقتصادي أن يتنحى مخلياً المكان للأرقام والجداول، لكن الأرقام، إذا عزلت عن حيثياتها ومقدماتها تصبح صماء وتذكرنا بما قاله ذات يوم الفيلسوف والرياضي برتراند رسل لأحد زملائه عندما كان يضرب أرقاما بأخرى، وهو عمّ تتحدث يا صاحبي؟ وما هذه الملايين، هل هي بشر أم بقر أم أكياس بطاطا؟
بعضهم اختصر التحالف بين أعاصير الحرب والمال والطبيعة في أمريكا قائلاً إنه سوء الطالع، لكن مثل هذا التفسير البدائي يعفي من تسببوا في الأزمات من عواقب أفعالهم، فالرئيس بوش الذي يعد حقائبه لمغادرة البيت الأبيض أورث من سيخلفونه أزمات غير قابلة للانفراج في المدى المتطور، وقد تكون قابلة للانفجارات بتعاقب دراماتيكي.
إن عالمنا الذي يتوزع موته بين التخمة والجوع وبين عدة سكتات تطال القلب والدماغ والمال والأفكار والمفاهيم، يعيش الآن على الحافة، بعد أن راوح طويلاً في منطقة انعدم فيها الوزن.
ولو كانت الأزمة اقتصادية فقط، بدأت بما سميّ الخمول الاقتصادي وانتهت إلى اضطراب شامل لهان الأمر ولو قليلاً، لكن تحالف الأزمات وتزامن الكوارث، وغياب الروادع الموضوعية والذاتية أصبح يهدد العالم كله بالخطر، فما كان قبل عقود مجرد عرضٍ طارئ تحول إلى مرض عضال، ولم تفلح الوصفات الأكثر تداولاً في وضع حد لهذا الاضطراب المعولم ولهذا الشقاء المتعدد الجنسيات.
والزمن الذي تكثر فيه الثرثرة عن الحق والعدل تهدده سكتات لا يرجى لها شفاء لأن من تسببوا بها لا ترجى لهم أية مغفرة.