العقاب الإلهي العقاري
حسام عيتاني
استئناف مؤشرات الاسواق العالمية والعربية صعودها في تعاملات يوم أمس، لا يكفي للحكم بأن الازمة المالية العالمية قد أصبحت من الماضي، وأن العلاجات التي سارعت حكومات عديدة لتبنيها تشكل الترياق الشافي للأمراض التي كادت تودي بالاقتصاد العالمي في الاسابيع الثلاثة الماضية.
حذر كهذا واجب الاتباع لمقابلة طيش التفاؤل والتشاؤم الاقصيين، وخصوصا لناحية التنبؤ بنهاية الرأسمالية وبعودة ظافرة لاشتراكية ما، غير محددة السمات، الى وصل ما انقطع منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته. استخدام رطانة متمركسة، بعيدة كل البعد عن منطلقات التحليل الدقيق لمظاهر الأزمة الأخيرة، أعاد مرة جديدة تسليط الضوء على بؤس العدة المعرفية التي يحملها نقاد الرأسمالية عندنا، واستسهال اللجوء الى عبارات لا مكان لها في الطور الحالي مما شهده العالم وأسواقه.
وراوحت أكثر المقاربات العربية لانهيار الاسواق العالمية بين »العقاب الالهي« ونهاية الرأسمالية، من دون أن يكلف أحد ممن كتب في هذا الاطار طرح سؤال بسيط مفاده: ما هي البدائل التي تحتل مكان النظام العالمي المنهار؟ ما مصير شعوب العالم الثالث التي ربطت نفسها وربطها الغرب بنفسه في الاقتصاد والسياسة والثقافة الى الحد الذي لم يعد من الممكن تصور انهيار الغرب، الذي تمناه أصحابنا المبشرون باقتراب انتقام المؤمنين من خلال شاشات »الداو جونز« و»ناسداك« الالكترونية، من دون أن يكون ذلك كارثة على العالم الثالث الذي لم يفلح في صياغة علاقة سليمة مع الغرب.
والحال أن الحكومات الموسومة »بالبرجوازية« دخلت الى السوق المالية لتفرض الحلول لمصلحة المواطن ـ الناخب ـ دافع الضريبة. لم تحضر النقابات العمالية أي اجتماع ذي شأن في أي من الدول الصناعية التي تركزت الازمة فيها، أو حتى في الدول النامية التي كانت مهددة بالتعرض لآثار الانهيار الاقتصادي أكثر من غيرها.
غياب النقابات وأحزاب اليسار عن الصورة أثناء المنعطفات الكبرى التي شهدها العالم في الاسابيع القليلة الماضية والتي ستدخل التاريخ الاقتصادي كعلامة فارقة في العلاقة بين الدولة وأسواق المال، يشير الى أن الدولة البرجوازية ما زالت تتمتع برصيد كبير لدى مواطنيها أو على الأقل لدى الطبقة المتوسطة منهم، وهي الطبقة المرشحة لتحمل أكبر الخسائر جراء ذوبان قيم الأوراق المالية. كان طرفا المفاوضات هما المسؤولين الحكوميين عن المصارف المركزية وهيئات الرقابة المالية المختلفة وأصحاب ومدراء المصارف التجارية ومؤسسات الإقراض والتسليف والتأمين. بكلمات أخرى، تراجع الوجه »الطبقي« في الازمة الراهنة خلافا لما كان عليه الوضع في الركود الكبير في العام ١٩٢٩ عندما كانت النقابات ومن ورائها قوى اليسار تدفع في اتجاه تبني إصلاحات راديكالية لمجمل علاقات الإنتاج السائدة.
صحيح أن الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج السلعي ظل في منأى الى حد ما عن التأثيرات المباشرة للازمة الراهنة بفضل سرعة تدخل الحكومات (مع وجود تململ واضح في الدوائر الاقتصادية كلها جراء تشدد المصارف في إجراءات الإقراض والائتمان على أنواعها، ما يعيق سرعة التبادل)، لكن الصحيح ايضا أن انفجار فقاعة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة أظهر أهمية الاحتفاظ باقتصاد إنتاجي على الرغم من قلة الارباح التي يحققها مقارنة مع الاقتصاد المرتكز على تبادلات الأسواق المالية الشبيهة بالواقع الافتراضي وبالمعادلات الرياضية المجردة لبعدها المتزايد عن السلع الملموسة أو القابلة للتصور البسيط ولإدمانها إخراج منتجات فرعية الى حيز الوجود وإضفاء المزيد من التعقيد على عمليات التبادل.
فداحة ما حصل في الاسواق المالية يجب ألا تمحوها لحظات التفاؤل التي انتشرت على ضفتي الاطلسي امس. فآلاف المليارات من الدولارات التي ضختها الحكومات الى الاسواق قد تتبخر في غضون أيام قليلة، ما لم تعالج أسس المشكلة المالية التي سمحت بحصول عمليات إقراض كبيرة من دون ضمانات كافية ودفعت أسواق العقارات في الدولة الرأسمالية الاكبر الى الركود ومن ثم الانهيار.
واذا كان من السذاجة الاعتقاد أن الرأسمالية قد دخلت »مأزقها التناقضي« حيث ما زال في جعبة هذا النظام الكثير من أوراق الاحتياط ومن المرونة التي تتيح إعادة صياغة العلاقة التي تربطه بالمجتمع وبالسلطة السياسية، فإنه من السذاجة ايضا الظن بأن الاسواق ستسعيد عافيتها وستعود »الاعمال كالمعتاد« في غضون أسابيع أو أشهر قليلة.
ولعله من المفيد التذكير بأن الأزمة الاقتصادية في شرق آسيا قبل عقد من الزمن قد بدأت بصفقة عقارية فاشلة، ما يبرر الافتراض أن سوق العقارات المربحة تحمل كذلك المخاطر الاكبر على الاقتصاد. وقد تكون الملاحظة هذه مفيدة، وخصوصاً بالنسبة الى المستثمرين العرب الذين يغامرون في توظيف الاموال في هذا القطاع الخطر، على حساب مشاريع بناء قواعد اقتصادية أمتن.
السفير