ملاحظات أساسية على الازمة الدولية
مروان اسكندر
من أجل سرد للملاحظات على الازمة المالية الدولية الحالية علينا ان نبقى في الاطار العام لان التطورات اليومية تعدّل الارقام، ولكن لا يمكن تعديل بعض الحقائق الاساسية إلاّ من طريق استصدار تشريعات أو الغاء أخرى، اضافة الى تنفيذ القوانين.
الحقائق الاساسية
ان الازمة التي تواجه الاسواق المالية، هي الاكبر في التاريخ الحديث منذ الكساد الكبير الذي عم العالم بدءاً من الولايات المتحدة والذي امتد من العام 1929 حتى 1933.
ومن نتائج الازمة حتى تاريخه ادراج المصارف خسائر اقتراضية على نطاق عالمي بلغت نحو 600 مليار دولار، وزيادة رؤوس اموال المصارف430 مليار دولار.
وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، ستشطب المصارف الاميركية والأوروبية من موازناتها موجودات قيمتها 10 تريليون دولار سنة 2009، أي ما يوازي تقريبا نسبة 15 في المئة من حجم الموجودات كاملة، وسينحصر نمو الاقراض بنسبة واحد في المئة لدى المصارف الاميركية في الوقت ذاته مما سيقلص النمو عالميا بنسبة 1،5 في المئة.
وكان اجرأ برامج الانقاذ التي اتبعت، البرنامج البريطاني الذي بلغ حجمه 400 مليار ليرة استرلينية أو 700 مليار دولار، تضاف اليه التزامات سابقة تمثلت في تملك ثلاثة مصارف عقارية في مقابل التزامات بلغت 75 مليار استرلينية.
والمهم ان برنامج الانقاذ البريطاني الذي أقرته حكومة عمالية النزعة في مجتمع ديموقراطي، كان المظهر الاساسي لتعدل النظرة الاقتصادية العالمية السائدة.
كانت هذه النظرة تسمى “توافق واشنطن”، وهذه العبارة تختصر قواعد التوافق بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الاميركية. وخلاصة هذا التوافق تكريس تحرير الاسواق والتجارة، ورفع القيود عن التحويلات والمعاملات، وتكريس الشفافية، ودور التقنيات الحديثة في انجاز المعاملات. كذلك فان توافق واشنطن، وكتوصية ضمنية، كان يوصي بضبط التضخم من جهة، وحصر نسب العجز في موازنات الدول من جهة اخرى.
في المقابل، اجازت واشنطن لنفسها ولمؤسساتها ما يتعارض مع المبادئ المشار اليها. فعلى صعيد الشفافية، تجاوزت أرقام موجودات مصارف الاعمال، كـ “ليمان براذرز” و “بيرشترن” و “ج. ب. مورغان” و”مورغان ستانلي”، الخ.، اضافة الى موجودات صناديق التحوط والصناديق النقدية المشتركة، موجودات المصارف التجارية بنسبة ملحوظة. وجميع هذه المؤسسات كانت غير خاضعة لشروط توصيات بازل “1” و”بازل 2″. كما ان المصارف التجارية قلما التزمت معايير توصيات بازل. والحصيلة العامة لتفاعل الاسواق بعضها مع البعض وإخراج غالبية التبادلات والمعاملات المالية من نطاق القيود الائتمانية وممارسات الشفافية، أدت الى وجود عقود مستقبلية تطول السلع والمنتجات المالية والتفاوت في اسعار العملات. وقدر بنك التسويات الدولية هذه العقود في نهاية عام 2007 بـ 600 تريليون دولار (راجع مجلة “الايكونوميست” الخاص بالأزمة الدولية الصادر في 11 تشرين الاول 2008).
وقد فرضت هذه الازمة، لئلا تتحول كساداً عالمياً كبيراً، اتخاذ اجراءات عدة تسهيلية وتمويلية سريعة، وستستوجب ايضا انجاز اجراءات وتشريعات دولية في المستقبل القريب.
وأبرز ما تحقق حتى تاريخه:
– اطلاق البرنامج البريطاني الذي يسمح بتملك اسهم المصارف العاملة بنسب متفاوتة تبعاً لحاجات المؤسسات المعنية.
– تأمين السيولة للمصارف كي تستعيد دورة الاقراض بعض نشاطها فتخف خسائر القطاع العقاري تدريجاً وتنحصر عمليات تسريح العمال، وإن بعد أشهر.
– تعزيز التعاون التشريعي والمالي مع بلدان السوق المشتركة الخمسة عشر التي تستعمل الاورو، في حين ان سياسة بريطانيا كانت في السابق الابتعاد عن هذه العملة. وللمرة الاولى منذ عقود نسمع رئيس وزراء بريطانيا يلقي اللوم على الولايات المتحدة لتسببها بتفجر الازمة الدولية.
وفرضت المبادرة البريطانية والالتزام الكبير والسريع على الولايات المتحدة التعجيل في تطبيق القانون الذي أقره الكونغرس بشراء 700 مليار دولار من الديون “المسمومة” من القطاع المصرفي. وحيث ان اجراءات تقويم الموجودات التي تبتاعها السلطات الفيديرالية امر يستوجب انقضاء وقت ليس بقصير، ونظراً الى الحاح الوضع وضرورة التعجيل في الحلول، أقرت السلطات الاميركية تخصيص 250 مليار دولار لشراء اسهم في المصارف الكبرى وتملك ديون تجارية، وقد بوشر تطبيق هذا البرنامج.
– مسارعة المانيا، الدولة الكبرى اقتصادياً في المجموعة الاوروبية، الى اعتماد برنامج يشابه البرنامج البريطاني، مع ان المستشارة ميركل ترددت في اعتماد هذا الامر بادئ بدء، لكن توقعات آثار الازمة فرضت عليها تعديل نظرتها هذه وحصلت من السلطات التشريعية على قرار بتخصيص 500 مليار اورو لدعم المصارف وشراء اسهمها، اذا اقتضى الامر. وقد اضافت الى كل ذلك ضمان اموال المودعين على ثلاث سنوات.
– بادر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بصفته الرئيس الدوري للاتحاد الاوروبي، الى حث جميع الدول الاعضاء على تبني مشاريع انقاذية، وعلى التعاون بين أعضاء السوق الاوروبية وبريطانيا والولايات المتحدة، اضافة الى المصرف المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي. وأقرت جميع الدول الاوروبية الرئيسية برامج انقاذية، بما فيها الدول الصغيرة نسبيا كالبرتغال واليونان.
– تبنى المصرف المركزي الاوروبي سياسة تأمين السيولة للمصارف الاوروبية، وتوفير السيولة بالدولار للمصارف التي لديها التزامات بالعملة الاميركية. وتجلى هذا التعاون بين الاوروبيين والأميركيين، الامر الذي لم يكن متوافرا في السابق.
ان مراجعة التطورات والإجراءات المقررة والتي لا بد ان تليها قرارات وإجراءات اضافية في الاتجاه ذاته، أمر يلفت الى عدد من التوصيات المهمة التي يجب التحوط لها، لان الفشل في عملية الانقاذ، وإن على حساب مواجهة مخاطر تضخمية، سيؤدي الى كساد يتآكل كل ما تحقق خلال عقدين من زمن تحرر الاسواق وتطويرها، وتخفيف القيود على التجارة العالمية، وتطور الاسواق المشتركة اقليميا.
للمرة الاولى في تاريخ الازمات المالية منذ عام 1991، تاريخ ازمة الاقراض العقاري الاولى التي امكن امتصاصها بتخصيص 400 مليار دولار لها فقط، تتفجر ازمة دولية من الولايات المتحدة بالذات، وبسبب التفلت من قيود الرقابة وضرورات الممارسة الحصيفة. فالأزمات المالية نشبت في الارجنتين والبرازيل أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وفي المكسيك عام 1994، وفي دول جنوب شرق آسيا وروسيا عام 1998، وكان الخلاص أو العلاج يتوافر دوما من الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، وفي حالات نادرة، من اصلاحات جذرية ومعونات استثنائية من دول غنية كما حصل بين روسيا وألمانيا والدول الاوربية بعد عام 1998 وبداية القرن الحادي والعشرين.
وكما هو واضح، ان اطفاء نار الازمة استوجب تخصيص قدرات مالية قد توازي حجم الدخل القومي الاميركي لسنة كاملة. وتفادي الازمات مستقبلاً يفرض تعزيز الرقابة على العمل المصرفي والغاء الكثير من المشتقات التي تم تسويقها، وحصر نشاط الاسواق المالية في العقود المستقبلية، والتخلي عن تعاليم “توافق واشنطن” والاقرار بان الرأسمالية المنعتقة من اية قيود رقابية ومستوجبات الشفافية الحقيقية لا يمكن ان تساند النمو وتحسين مستويات المعيشة في البلدان المعنية.
ان احداث الاسواق المالية قد دحضت الادعاء ان تحرير الاسواق والمبادلات والعملات يؤدي الى تعزيز الديموقراطية، فاكبر بلد ديموقراطي تفلت من القيود ليجر العالم الى حافة الهاوية – المتمثلة بالكساد.
ان عملية الانقاذ في المستقبل، واستعادة النمو بعد سنة او سنتين، ترتهن بأمرين على الاقل: مساهمة الدول النامية والصناعية المتمتعة باحتياطات كبيرة، ومن اهمها الصين (1300 مليار دولار) وأبو ظبي (900 مليار دولار) واليابان (900 مليار دولار) ونروج (800 مليار دولار) وروسيا (700 مليار دولار) وسنغافورة (500 مليار دولار) والسعودية (500 مليار دولار) والكويت (400 مليار دولار)، الخ، في برامج الانقاذ المالي القصيرة المدى، وفي التوظيفات الاستثمارية التي تضمن استمرار المؤسسات الكبرى.
والامر الثاني، الاكثر اهمية لمستقبل الاقتصاد العالمي، هو ان على الدول النامية، واخصها الصين والهند وروسيا والبرازيل وتركيا ودول جنوب آسيا، وفي الشرق الاوسط ايران، ان تستمر في النمو والتفاعل من أجل المحافظة على زخم انمائي يغلب على توقعات التشاؤم السائدة.
قبل سنوات كان الترياق في مجال التطورات الاقتصادية العالمية مرتبطاً في المقام الاول بالولايات المتحدة ، ومن ثم بعدد من الدول الصناعية.
الوضع اليوم اختلف. فالمستقبل يرتهن بالفعل، من جهة، بحسن تطبيق القوانين والتعليمات ونشاط المصارف المركزية الرقابية في الولايات المتحدة وأوروبا. ومن جهة اخرى، يرتهن مستقبل الاقتصاد العالمي بمساهمة الدول النامية في التغلب على الازمة المالية العاصفة في المدى القصير، ومن بعد مثابرة هذه الدول على النمو بمعدلات قد تنخفض عن مستويات 8 – 10 في المئة المحققة خلال السنوات الاخيرة الى معدلات يبلغ متوسطها 6 في المئة، وهذه النسبة كافية للمساهمة في المحافظة على وتيرة نمو مقبولة في العالم الصناعي تحول دون سواد التشاؤم بالمستقبل لدى الشعوب في البلدان الصناعية والنامية.