الرساميـل العالميـة تتجـه شـرقـاً
مسعود ضاهر
بعد إقرار الولايات المتحدة خطة الإنقاذ الحكومية بقيمة ٧٠٠ مليار دولار لمواجهة الأزمة المالية التي لحقت باقتصادها وأدت إلى هلع شديد في الأوساط المالية العالمية، امتدح الرئيس بوش فوائد الخطة، لكنه نبه إلى أن تطبيقها يحتاج لسنوات عدة قبل أن تظهر نتائجها الايجابية على الاقتصاد الأميركي. إلا أن تصريحات بوش ليست مصدر ثقة، تبعاً لنتائج سياساته العسكرية والمالية، ولن تستطيع خطة الإنقاذ تخفيف أزمة الائتمان المسؤولة عن حالة الاضطراب التي تسود الآن جميع أسواق المال العالمية. وباتت دول الاتحاد الأوروبي التي تسير على خطى الولايات المتحدة في كثير من المجالات تتمايز عنها في مجال معالجة ذيول الأزمة، وفرض قيود صارمة على حركة الرساميل. والتزمت الدول الأربع الكبرى، فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، سياسة دعم المؤسسات المالية الأوروبية المتعثرة. وصدرت مواقف متفاوتة الأهمية بعد قمة تلك الدول في الخامس من تشرين الأول ٢٠٠٨ تظهر رغبة تلك الدول في عقد قمة عامية بأسرع وقت ممكن لإعادة النظر في قواعد النظام المالي العالمي.
على أن تتحمل كل دولة مسؤولياتها على المستوى الوطني في مواجهة أزمة المصارف، دون الإضرار بمصالح الدول الأوروبية الأخرى. وأن تحترم خطة الإنقاذ في كل بلد القواعد العامة لأصول المنافسة الشريفة بين المصارف الأوروبية. تمحورت خطة الإنقاذ الأوروبية حول مبادئ عدة أبرزها:
١ـ الالتزام التام بتطبيق كامل بنود معاهدة الاستقرار والنمو التي تحدد ضوابط الدين والعجز العام في جميع الدول الأوروبية.
٢ـ التنبيه إلى أن تراكم العجز والعودة إلى دوامة الاستدانة يمثّلان خطرا أكيدا على النظام الرأسمالي العالمي ويزيدان من الأزمة المالية على المستوى الكوني.
٣ـ تحدد معاهدة الاستقرار والنمو الأوروبية سقف العجز المالي الذي يجب ألا يتجاوز نسبة الثلاثة في المئة (٣ في المئة) من الناتج المحلي الإجمالي.
٤ـ اتخاذ جميع التدابير الضرورية للحفاظ على استقرار النظام المالي، وضمان ضخ السيولة اللازمة للحفاظ على الثقة والاستقرار.
٥ـ بما أن الأزمة القادمة من أميركا تؤثر سلبا على البنوك والشركات الأوروبية، لا بد من الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة لتنفيذ خطة الإنقاذ المالي التي تعزز الثقة بالقطاع المالي الأميركي، وبالتالي بالنظام المالي العالمي.
٦ـ محاسبة المسؤولين عن الأزمة أينما وجدوا، ووضع قواعد وآليات عمل تحول دون حدوث أزمات مماثلة في المستقبل.
٧ـ ضمان أموال المواطنين والحفاظ على ثقة الأوروبيين بالنظام المصرفي الأوروبي الذي عليه أن يثبت قدرته العملية على مواجهة الأزمات المالية.
دلالة ذلك أن أميركا ودول الاتحاد الأوروبي تعالج الأزمة على أنها سياسية واقتصادية في آن واحد. ويرى بعض المحللين أن الولايات المتحدة بدأت مرحلة الانحدار عن القمة، وجرّت معها دولا كثيرة من أوروبا ودول العالم الثالث التي تعرضت لأسوأ أزمة مالية منذ العام .١٩٢٩ فمصدر الخلل سياسي قبل أن يكون اقتصاديا. إذ اعتمد الأميركيون سياسة القروض الطويلة الأمد وما يترتب عليها من فوائد مرتفعة. وكانت لديهم ثقة زائدة بأنفسهم، وبقدرتهم على جذب الرأسمال العالمي إلى بنوكهم ومؤسساتهم، واتخاذ تلك الأموال كرهائن مالية لتنشيط اقتصاد أميركي يقوم على المديونية بصورة فاضحة. ولم تخف الإدارة الأميركية حجم الموازنات الباهظة التي أنفقتها على حروب عبثية خارج أراضيها. وشكلت حربا أفغانستان والعراق مصدر خطر كبيراً على الخزانة الأميركية التي اضطرت إلى ضخ مئات مليارات الدولارات، وهي مستمرة في تمويل تلك الحروب من خلال مبالغ إضافية طائلة لعبت دورا أساسيا، إلى جانب كوارث بيئية واقتصادية، في انفجار الأزمة المالية الراهنة. تضاف إلى ذلك أزمة الغذاء العالمية، والتلاعب بأسعار النفط صعودا وهبوطا، والعودة إلى سباق التسلح، ونشر الدرع الصاروخية الجديدة المعادية لروسيا في أوروبا، والتهديد بشن حرب جديدة ضد إيران وكوريا الشمالية وسوريا ولبنان، وتسليح تايوان في عملية استفزاز واضحة ضد الصين، وكلها تشكل إشارات واضحة على عجز الولايات المتحدة عن قيادة النظام العالمي الجديد وقبولها القسري لاحقا بنظام متعدد الأقطاب. بعد التدابير الأميركية المسكوت عنها من جانب دول الاتحاد الأوروبي، برز تيار جديد في روسيا يدعو للتمايز عن الغرب بوجهيه الأميركي والأوروبي. فروسيا لن تغفر للاتحاد موقفه الملتبس من نشر الدرع الصاروخية على كامل حدودها. ويطالب صقور »روسيا العظمى«، بأن تكون بلادهم شريكة كاملة للاتحاد وترفض سياسة حرب باردة جديدة ضدها انطلاقا من أوروبا.
بالمقابل، تعيش معظم الدول الآسيوية مرحلة استقرار مالي واضحة. ففي حفل افتتاح منتدى لقاء دافوس السنوي للعام الحالي بتاريخ ٢٧ أيلول ٢٠٠٨ في بلدية تيانجين بشمال الصين، قال رئيس مجلس الدولة في الصين »ون جيا باو«: إن الصين واثقة من ضمان نمو اقتصادي سريع وسليم يعزز الاقتصاد العالمي. وأضاف: »لعل أكبر إسهام يمكن أن تقدمه الصين للاقتصاد العالمي في ظروف الأزمة المالية العالمية الراهنة، هو الحفاظ على قوة الدفع القوية في الصين عبر نمو اقتصادي مطرد مع تجنب الأزمات الاقتصادية الكبيرة. فالصين تمر بمرحـــلة التصنيع السريع والتحديث المتواصل، ولديها إمكانـــات ضخمة للحفاظ على النمو الاقتصادي بوتيرة ثابتة. وهي مرحلة هامة تقدم المزيد من الفرص الاستراتيجية للتنمية الاقتصادية المســــتدامة في الصين. وأثبتت قدرة هائلة على تجاوز الأزمات الكبـيرة كالعواصف الثلجية، والصقيع، والزلزال المدمر، وحافظت على قوة الدفع الاقتصادي بوتيرة ثابتة«.
وفي الخامس من تشرين الأول ٢٠٠٨ صرح رئيس مجلس الدولة الصيني مجددا بأن النظام المالي للصين قوي ومستقر في وقت يواجه فيه الاقتصاد العالمي تغييرات دراماتيكية في الولايات المتحدة كانت لها آثار سلبية خطيرة على السوق المالية والاقتصاد العالمي بأكمله. وكانت الصين قد اتخذت تدابير فعالة، ووضعت ضوابط صارمة تضمن استمرار قوة الدفع لعملية التنمية السريعة والمستدامة. »لذلك لم يتأثر الاقتصاد الصيني بالأزمة. ولدينا ثقة كاملة بالتنمية الاقتصادية والاستقرار المالي في الصين، ونعمل باستمرار على جذب المزيد من رؤوس الأموال«.
نشير كذلك إلى مقالة مهمة للوزير البريطاني الأسبق وعضو مجلس اللوردات حاليا، ديفيد هويل، المنشورة في جريدة »جابان تايمز« اليابانية بتاريخ ٣ تشرين الأول ،٢٠٠٨ أشار فيها إلى تحولات جغرافية مرتقبة للرساميل العالمية من مركزها الحالي في أميركا وغرب أوروبا إلى جنوب وشرق آسيا. ترافقها تبدلات اقتصادية في أميركا وبريطانيا خاصة، بعد أن تحولتا إلى دول مدينة، عليهما تسديد ديون كبيرة بفوائد مرتفعة تؤثر سلبا على اقتصادهما ومستوى رفاهية شعبيهما. وتستفيد الدول ذات النمو المرتفع أو الثابت كالصين والهند، وبنسبة أقل اليابان وروسيا، من الأزمة المالية الحالية التي حولت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى نموذج شبيه بسفينة تايتانيك العملاقة والفاخرة التي اصطدمت بجبل الجليد فغرقت بسرعة وهي في أوج تألقها.
نخلص إلى القول بأن الحلول المقترحة في خطة الإنقاذ الأميركية والأوروبية تتعارض مع طبيعة النظام الرأسمالي، ومنها تأميم البنوك المفلسة أو المتعثرة. وهناك حلول أخرى أكثر عقلانية ترى أن أميركا ما زالت قطبا أساسيا في النظام العالمي، لكنها مجبرة على الاعتراف بأنها ليست القطب الأوحد فيه. ومن المتوقع ظهور المزيد من النمو في الدول الآسيوية، والترقب والحذر في الدول الأوروبية، والمزيد من الأزمات المالية في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية.
ختاماً، تنتقم الدول الآسيوية اليوم من الانهيار المالي الذي تسببت به الولايات المتحدة في دول جنوب شرق آسيا .١٩٩٧ فقد أجبرت آنذاك على اتخاذ إجراءات تقشفية أثرت على الخدمات الاجتماعية فيها، والاقتراض بفوائد مرتفعة من البنوك الأوروبية واليابانية والأميركية بعد انهيار أسعار عملاتها، وإفلاس شركات آسيوية كبيرة اشترتها شركات أميركية عابرة للقارات بأسعار بخسة. لكن أميركا تواجه اليوم أزمة مشـــابهة تجبرها على تقاسم الزعامة القطبية مع الدول الآسيوية، وخاصة الصين التي ستستقطب كماً هائلاً من الرساميل العالمية التي تبحث شرقاً عن الاستقرار والأرباح المضمونة.
([) مؤرخ وأستاذ جامعي