خطر… خذوا الحذر!
عبد الوهاب بدرخان
الأغنياء يخسرون أموالهم، هل يمر هذا بسلام؟ الفقراء يخسرون اللقمة؟ هل تظنون أن هذا سيمر بسلام؟ دورات التاريخ تتكرر إلى حد روتيني أحياناً، فكيف إذا كانت الأزمة لم تضرب فقط خزانة القوة العظمى الوحيدة، وإنما أصابت أخيراً عصب الزعامة لديها، وأوجعته، يكفي أنها اضطرت، على مضض، بعد تلكؤ، للتنسيق مع الآخرين في كيفية الخروج من الأزمة، في العادة، هي لا تنسق، بالكاد تتشاور، لكنها هي التي تقرر في النهاية وتملي ما يكون وما لا يكون، ما يمكن وما يستحيل.
تصرفت القوة العظمى الوحيدة، منذ ضُربت بالإرهاب، بإرهاب مضاعف وأشد. أخيراً أتيح لها أن تكتشف أن ثمة قدراً أعلى، ها هي النهاية الدراماتيكية تفوق كل تصوُّر، مكلفة جداً تلك النهاية، أرقام بأصفار عديدة قلما تتداولها الأخبار، إذ بها تصبح مجرد تعبير “ديجيتالي” عن خواء مبهر.
في أزمة 1929 كانوا يكدسون أكواماً من الأوراق النقدية، الفاقدة قيمتها بين صبح وعشية، لشراء أتفه الحاجيات. في أزمة 2008 يراكمون الأصفار في حواسيب البنوك، قبل شهر كانت تلك الأصفار في الطالع، وهي الآن في النازل، كانت في الأخضر، وهي الآن في الأحمر. لاحقاً ستستعصي الأرقام على العدِّ، الألف مليون بليون، والألف بليون تريليون، والألف تريليون كم؟ ثروات بحجم الأوهام، تماماً كما القروض التي استخرجها البنكيون من جعب مخيلاتهم ورموها في السوق فعادت إليهم فقاعات لاهية.
لم يفطن أحد إلى الفارق بين طفرة الأصفار المتطايرة وبين طفرة القيمة الحقيقية، كانت الأسهم تحلق كأنها أسهم نارية تحتفل بالأرباح ولا تتوقف. تحولت “وول ستريت” إلى كازينو مقامرة لا بقاء فيه إلا للأكثر امتلاء، وبين جرسي الافتتاح والإغلاق تخاض أقذع الحروب وأقذرها. في الأسبوع الرابع من الأزمة، كان معلوماً علم اليقين أنه “سيكون هناك دم”، أي أن الخسائر مضمونة، لذا كان لابد من انتحاريين للذهاب إلى هذه التهلكة. على مدار الساعة، يوماً بعد يوم، سمع الصراخ والنحيب، خمسة وعشرون تريليون ذابت وانتفت، أين ذهبت؟ هذا سؤال التريليون دولار، فإما أنها كانت موجودة فعلاً وخسرها هذا ليربحها ذاك، إذاً فهي لا تزال موجودة لكنها انتقلت من يد إلى يد، وإما أنها غير موجودة -أو موجودة افتراضاً- وبالتالي فإذا خُسرت لم يربحها أحد، إذاً أين المشكلة؟ تساؤلات ساذجة بلا شك، تماماً مثل السذاجة التي كافأت مدير ذاك البنك ببضع مئات الملايين مع أنه قاد بنكه إلى الإفلاس بعد ما أعطى قروضاً تفوق أصوله بـ130 ضعفاً.
لا أحد يستطيع أن يحدد أين تذهب الخسائر طالما أن أحداً لم يربحها في المقابل، لأن هذا هو سر لعبة الأسهم، فهي ترفع السعر ربحاً أو تخفضه خسارة. أما الربح فيفترض أن يظهر في صحة الاقتصاد -الاقتصاد الحقيقي- وعافيته، وأما الخسارة فستنعكس بلا شك -وبلا افتراضات- اعتلالاً عميقاً ومزمناً في هذا الاقتصاد. الشركات الإنتاجية لن تحصل بسهولة على قروض، لذا فهي ستلغي تطويراتها واستثماراتها، ولن تلبث أن تلغي وظائف، وحتى إذا تحسنت ظروف الإقراض فإن الخوف وانعدام الثقة سيفرضان بطئاً في الاستثمار والإنتاج الجديد، البطالة ترتفع، الاستهلاك ينكمش، كل ذلك آت في الطريق، واسمه: الركود.
أين تسهر ليلة بدء الركود؟ في كابول أم في بغداد أم في غزة أم في مقديشو، مع مقاتلي “طالبان”، أم مع قراصنة الصومال؟ لا أحد يستطيع أن يتصور أحوال العالم في السنوات القليلة المقبلة. الدول الغنية ستحاول التخلص سريعاً من الأزمة ومناخها الثقيل، مستخدمة تحديداً قواعد الأسواق وقوتها ورغبتها في التعافي، لكن الدول الفقيرة التي ستغدو أكثر فقراً فستكون محظوظة إذا لم تبتلَ بمجاعات وليس من اللطف أو الحصافة أن تُسأل عن خططها للتنمية. والسؤال هو: ماذا ستفعل القوة العظمى الوحيدة بحروبها المفتوحة الآن، خصوصاً إذا أرادت الهروب من الأزمة بـ”الاستثمار” في صناعات الموت، أي في حروب جديدة. هناك خطر، خطر غير افتراضي وغير متخيَّل، إلا إذا غيّر التاريخ منطقه فلا يعود بحاجة إلى حرب ليخرج من ركود؟
الاتحاد