“الإسلام العربي” لعبدالله خلايفي: لا مناص من التجديد
يتوزع المسلمون اليوم في جميع القارات ويتكوّنون من شعوب واقوام مختلفة يشكل العرب بينهم الاقلية. على رغم ان اصول الاسلام عربية من حيث ان القرآن نزل باللغة العربية والنبي جاء من الجزيرة العربية، وان الكثير من الآيات القرآنية تشير الى الاعراف والتقاليد العربية السائدة في العهد الاسلامي الاول، الا انه يصعب اليوم حصر الاسلام في العرب، بل ان الاسلام العربي اليوم هو احد الفروع، مثلما يوجد هناك اسلام آسيوي وافريقي وتركي، وهذه مسألة تثير مناقشة لا تزال مستمرة حول الدعوة الاسلامية وما اذا كانت موجهة الى العرب ومقتصرة عليهم، ام انها ذات طابع شمولي. يحاول كتاب “الاسلام العربي” لمؤلفه عبد الله خلايفي (عن “رابطة العقلانيين العرب” و”دار الطليعة” في بيروت) ان يجيب عن بعض الاشكالات في هذا الموضوع.
لم يتشكل الاسلام العربي الواقع في رقعة جغرافية تشمل ما يعرف اليوم بالعالم العربي، دفعة واحدة، بل حكمته سيرورة تاريخية لعبت فيها الفتوحات الاسلامية وما رافقها من عملية تعريب للامصار الجديدة، دورا اساسيا في تكونه وتركزه. لا ينكر الباحثون ان العامل الديني المعبّر عنه في الاسلام كان الاساس في تكون المجال العربي وانصهاره. فالبلاد التي فتحها المسلمون من مصر الى العراق الى المغرب وبلاد الشام كانت تدين في معظمها بالنصرانية، فقبلت بالفتح العربي على حساب الدولة البيزنطية بعدما كانت تعيش في حالة انقسام بين طوائفها، وتخلصا ايضا من ظلم الدولة البيزنطية.
من المؤكد ان الاسلام الذي فتح المناطق العربية وغير العربية لم يكن اسلام الدين والايمان بمقدار ما كان اسلام الدولة التي كانت تكونت بشكل فعلي مع حكم معاوية. لكن الشعوب التي دخل اليها الفاتحون العرب وجدوا انفسهم امام ضرورة تعلم اللغة العربية ليتمكنوا من التعرف الى الدين الاسلامي من مصدره الاول اي القرآن، حتى ان محمد عبده يشير الى ان تعلم اللغة العربية من جانب هذه الشعوب “ضرب من ضروب العبادة”. لكن الدولة العربية لعبت دورا مهما في نشر التعريب من خلال الهجرات الجماعية التي دبّرتها هذه الدولة، وبموجبها نقلت قبائل ومجموعات الى البلاد الجديدة. يضاف الى هذا العنصر ان ما نص عليه الاسلام من فريضة الحج ساهم في نشر اللغة العربية بين شعوب غير عربية نظرا الى حاجتها الى التبادل مع ابناء الجزيرة العربية التي تشكل محطة الحجاج.
على رغم التطورات السياسية التي عرفتها الدولة العربية الاسلامية وتقلص الدور العربي في مراحل لاحقة على الدولة الاموية لمصلحة الاتراك والفرس وغيرهم من الشعوب التي حكمت هذه الدولة باسم الاسلام، الا ان الاسلام العربي ظل على الدوام يحتل مركز الثقل في ديار الاسلام، لأنه مجال المقدس الاساسي نظرا الى رموز رئيسية يلتزمها كل مسلم في تعبده. فالنماذج المقدسة المتصلة بمكان الحج والكعبة وقبر الرسول والقبلة، كلها تعود الى الاسلام العربي الذي لا يزال حتى اليوم يتحكم في هذه المقدسات ويفرض شيوعها على سائر الشعوب القائلة بالاسلام، وهو ما يعطي الاسلام العربي موقعا سيظل يتخذ طابعا مميزا عن “الاسلامات” الاخرى في العالم.
اذا كانت العوامل المشار اليها تعطي الاسلام العربي موقعا قدسيا، الا ان هذا الاسلام تجري مناقشته اليوم بالمقارنة مع اسلامات اخرى، حول مدى التغيرات التي اصابته ومواطن التحجر التي لا تزال تتحكم بمفاصل عديدة منه. فالاسلام العربي، بمنظار الحداثة والتقدم، لا يزال يقع في درجات متأخرة جدا عن مواكبة العصر، وهو امر يرتبط بعوامل متعددة في مقدمها التكون الاجتماعي للبنى العربية التي لا تزال محكومة بالقبلية والعشائرية والطوائفية، والمؤسسات السياسية التي تحرص اشد الحرص على بقاء ثقافة التقليد مهيمنة في كل جانب من جوانب المجتمع.
اخطر ما يتميز به الاسلام العربي هو الابتعاد عن التأويل والاجتهاد في قراءة النص الديني والتمسك بحرفية النص وظاهره، وهي مسألة ادت الى جمود الفكر الاسلامي واقامته المديدة في السلف والتقليد، مما جعل الاسلام محكوماً بمجموعة من الطقوس والتقاليد تكرس التدين الظاهر وتبتعد عن الدين بمعناه الجوهري وببعده الروحي والاخلاقي. تسبب هذا التوجه بازدهار الفقه القائم على اجتهادات بشرية يقول بها فقهاء لا يصيبون غالبا جوهر النص الديني والاهداف التي سعى اليها. والمعروف ان مدرسة الفقهاء لم تكن يوما بعيدة عن توظيف فتاواها بما يخدم السلطان السياسي ويعطيه المشروعية لقراراته، كما لم تكن الدولة ايضا بعيدة يوما عن احتضان هؤلاء الفقهاء وتوفير الدعم اللازم ضد خصومهم من الذين يسعون الى التأويل والقراءة غير الشكلية للنص الديني. تفتح هذه المسألة على نقطة سلبية تسم الاسلام العربي الا وهي ضعف الفلسفة، وهو ضعف ناجم عما تتطلبه الفلسفة من حرية في الاجتهاد والتفسير والابتعاد عن القوالب الجامدة للنص الديني. يحوي تاريخ العالم العربي الاسلامي سجلات حافلة من الخصام بين الفقهاء والفلاسفة وما تسبب به من اضطهاد للفلسفة في اكثر من مكان في العالم العربي.
في ظل الاسلام العربي وتوسعه وانتشاره سادت الحروب المذهبية بين طوائفه في اطار الصراع على السلطة، كان ابرزها الصراع السني – الشيعي على الخلافة، وهو صراع لا يزال يتسم بحيوية استثنائية ويغذي الاحقاد والفتن، وخصوصا انه لم يبق اسير العالم العربي بل امتد الى مناطق اخرى في العالم الاسلامي، بحيث يصعب توقع تراجع حدته في المدى المنظور لارتباطه بالقضايا السياسية كما كان عليه اصلا.
لم يخل الاسلام العربي من ترك بصمات سلبية على الذهنية العربية، فبسبب الامتلاء بالطقوس والمقدسات اندمغت هذه الذهنية بنرجسية اعتبر العرب بموجبها انفسهم متقدمين على سائر البشر استنادا الى القول الديني “كنتم خير امة اخرجت للناس”، مما جعل الاسلام العربي يتقوقع على ذاته ويرفض الانفتاح على الثقافات والحضارات الاخرى، بل ان الاسوأ هو في النظرة الاحتقارية الى ما تمثله حضارات اخرى لا تقول بالاسلام دينا.
يحتاج الاسلام العربي اكثر من اي وقت مضى الى الخروج من عزلته والانفتاح على ذاته اولا، وهو امر يبدأ بمراجعة ثقافته الدينية الرافضة حتى الان للتأويل والاجتهاد وتحكيم العقلانية في النظر الى امور الحياة. انها تحديات كبرى تحتاج الى مناخات سياسية مختلفة عما هو سائد، كما تحتاج الى قوى ونخب تدرك ان معركة التجديد عنوانها اعادة النظر في مجمل الثقافة الدينية المتكونة والتي تعوق التقدم والتطور.