باب المعجزات تضخَّم طرداً مع مرور الزمن!
مراجعة: نظام مارديني
لماذا يستقيل العقل من الإسلام؟ هو قمة الأسئلة الفلسفية الجريئة التي يطرحها الدكتور جورج طرابيشي في الجزء الخامس من «نقد العقل العربي»، يرد فيه على فرضية محمد عابد الجابري الذي يرى أن الغزو الخارجي هو سبب استقالة العقل في الإسلام. في هذا الجزء ينفي طرابيشي ما يذهب اليه الجابري، مؤكداً أن هذه الاستقالة محكومة بآليات داخلية ذاتية لا علاقة لها بعامل خارجي، فاتحاً بذلك الباب أمام قراءة جديدة للإسلام تصالحه مع العصر ومع الحداثة والعلوم. متابعاً وعبر خمسة فصول وخاتمة، معجزات القرآن طبقاً للعلماء الذين واكبوا سيرة الرسول وروآه في الرسالة التي بعثت عبره الى البشرية.
يرى الباحث طرابيشي ان اتخاذ موقف عقلاني ونقدي جذري من أدبيات المعجزة ومنطق المعجزة يكاد يشكل انقلاباً، يطلق عليه «كوبرنيكياً»، إذ ساهمت تلك الأدبيات في إذاعة الوهم في الثقافة العربية للحداثة الموروثة، التي ابعدتها عن اجتراح ثورة كوبرنيكية كتلك التي أعطت شرارة الانطلاق للحداثة الأوروبية بتحويلها بؤرة اهتمامها المعرفي من عالم الكتاب الى كتاب العالم، وبقلبها اتجاه مسارها من العقل الديني الى العقل العالمي.
ليس يصعب على مستقرئ كتب السيرة ان يلاحظ ان باب المعجزات فيها يخضع خضوعاً شبه ميكانيكي لقانون التضخم طرداً مع مرور الزمن. فأقدم السير التي وصلتنا، وربما أقربها للحقيقة، أو أقلها بعداً عنها، هي سيرة ابن هشام التي تعود الى مطلع القرن الثالث الهجري، لم تذكر من المعجزات سوى عشر حصراً: سلام الحجر والشجر، تحريك الشجرة، إعماء القرشيين، سيف عكاشة بن محصن، عين قتادة بن النعمان، معجزة الكدية، معجزة تكثير التمر، معجزة تكثير الطعام، معجزة تحطيم الأصنام، معجزة نبع الماء.
ولكن بعد قرنين من الزمن، أي في النصف الأول من القرن الخامس، كان عدد هذه المعجزات قد تضاعف أربع مرات ليبلغ نحواً من أربعين لدى الماوردي في «أعلام النبوة»، وأكثر هذه المعجزات ينحصر بتكثير الطعام أو تفجير عيون الماء أو شفاء العيون أو انطلاق الحيوانات أو تحريك الجمادات. ومنها معجزات تناظر- بتصريح الماوردي- المعجزات المنسوبة الى عيسى بن مريم عليه السلام، هذا إن لم تزد عليها بلاغة، كما في معجزة تكثير الطعام في وقعة الخندق، وشفاء المجذومين، كما في مرض طفيل العامري، وإحياء الموتى وتسبيح الحصى.
وكبرى المعجزات المصنفة في باب من عاش بعد الموت تبقى هي تلك المنسوبة الى العلاء بن الحضرمي، الذي دفن بعد موته وعندما أراد اصحابه نبش القبر لنقله الى مكان آخر لأن الارض التي دفن فيها تلفظ الموتى، وعندما وصلوا الى اللحد فإذا بصاحبهم ليس فيه بل وجدوا فيه «نوراً يتلألأ». وهذه معجزة، خرقت فيها العادة، على المستوى الكسمولوجي فضلاً عن البيولوجي، واقترنت معجزة الحياة بعد الموت بمعجزة شق البحر ، والمشي فوق الماء.
إن الإيغال في الغرائبية التي أفقدت المعجزات حتى بعدها الميتافيزيقي، كانت عواملها بلا أدنى شك في إسلام الفتوحات الذي أحدث تحولاً جذرياً في طبيعة الإسلام الأول، ومن خلال التركيبة السكانية لبلدان الفتوحات نستطيع أن نفهم التحول الانقلابي في الإسلام من لاهوت الرسالة الى لاهوت المعجزة، مع كل ما ترتب على هذا من تحول أيضاً من تشغيل نسبي للعقل بصدد «المعجزة العقلية» التي جسدها القرآن الى شلل مطلق للعقل في قبالة المعجزات الحسية التي ستنسب الى الرسول بالمئات، بل بالآلاف.
من الضروري أن ننوه بسمتين خصوصيتين ميزتا تمخض أدبيات المعجزة وتضخمها في الإسلام. فقد سبق لجورج برنارد شو أن عرف المعجزة بأنها «حدث يخلق الإيمان». وجاء تعريفه هذا في تقديمه لمسرحيته عن جان دارك التي تحتل مكانها- وإن أنكر عليها هو نفسه صفة القداسة- في لائحة طويلة من قديسي الكنيسة وشهدائها الذين كانت «المعجزة»، أو ما يتصورونه أنه «المعجزة»، هي وراء اهتدائهم الى المسيحية أو استشهادهم في سبيلها، وهذا يشير الى أن المعجزة بقيت رفيق درب دائم للمسيحية منذ تأسيسها الى اليوم، وبدونها تفقد المسيحية الركن الأول في وجودها وفي عقيدتها الإيمانية.
والحال أن العكس هو ما ينطبق على المعجزة في الإسلام. فليست المعجزة في حالها هي التي خلقت الإيمان، بل يمكن القول على العكس إن الإيمان هو الذي خلق المعجزة. فأدبيات المعجزات لم تنشأ وتتطور إلا بعد أن أسلم ليس فقط أهل الصدر الأول والثاني، بل كذلك أجيال متتالية من سكان البلدان المفتوحة. ولكن ليس بهذه السمة وحدها يفترق تاريخ المعجزة في الإسلام عنه في المسيحية. فعلاوة على خصوصية لحظة التمخض هذه لأدبيات المعجزة في الإسلام، فإن مسارها التضخمي يمثل خصوصية ثانية.
[ الكتاب: المعجزة أو سبات العقل في الإسلام
[ الكاتب: جورج طرابيشي
[ الناشر: رابطة العقلانيين العرب، ودار الساقي، بيروت
المستقبل