صفحات مختارة

القرن الحادي والعشرون.. صراع الفوضى المبدعة وأطروحات المحافظين الجدد

null

حنا عبود

اتسعت آفاق الفوضوية في القرن التاسع عشر، فلم تعد تقتصر على تغيير السلطة السياسية، وتحطيم آلة الدولة، بل قدمت دراسات فلسفية في علم الجمال والأخلاق والحرية الاقتصاد.. إلى درجة أنه لم يعد أحد من الباحثين يتجاهل فلسفة هذه الحركة، على الرغم من المؤامرات والمغامرات الجريئة والخطيرة التي قام بها بعض أعضاء الفوضوية في كثير من البلدان الأوروبية، إلى أن وصلت هذه الأعمال في بداية القرن العشرين إلى الولايات المتحدة الأميركية، وصار للحركة أنصار ومنظمات فاعلة.

طرحت الفوضوية الكثير من المبادئ لحل المشكلة الإنسانية. ركزت كثيراً على الأشياء العامة: علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالدولة، وعلاقة التنظيم الاجتماعي بالقانون، وعلاقة المدني بالإلهي. ونكتفي بالعلاقتين الأولى والثانية، لأنهما يكفيان في إيضاح ما نرمي إليه.

الثالوث المرفوض

فمن حيث الفرد والجماعة تؤكد الفوضوية على حرية الفرد حرية مطلقة، ومن حيث علاقة الجماعة بالدولة، تؤكد أن الجماعة هي الأساس في التنظيم. وقد نظن أن هناك تناقضاً خطيراً ارتكبته الفوضوية، إذ كيف تدعو إلى الحرية المطلقة للفرد في وجه الجماعة، ثم تزعم أن التنظيم الاجتماعي من مهمة الجماعة وليس الدولة؟ ألا يعني هذا أن الفرد سوف يتخلى عن حريته عندما يندمج في التنظيم الاجتماعي؟

ترى الفوضوية أن الدولة هي التي تصادر حرية الأفراد والجماعات، أما التنظيم الفوضوي للجماعة فإنه عقد حر بين الفرد والجماعة، ولا يمس بحريته أبداً. ومثل هذا التنظيم لا تقوم به الدولة، لأنها أساساً مبنية على القمع. وهي من ضمن الثالوث المرفوض عند باكونين: الدولة والاله والملكية الخاصة. فأي عقد يكون فيه أقنوم من هذه الأقانيم يكون ضاراً، ولن يكتب له النجاح، مهما أكره الناس على العمل به.

وللخلاص من هذا الثالوث، لا بد من إطلاق طاقات الإنسان التحررية، ولا يكون هذا إلا بخرق كل الأنظمة، للوصول إلى ترتيب جديد يكون من طبيعة الأشياء، وليس مفروضاً فرضاً. لماذا خرق الأنظمة؟ لأن الأنظمة تنطوي على تركيبة مفتعلة، الغرض منها تكبيل كل حرية يمكن أن يمارسها الإنسان، عدا حرية الحاكم، أي الدولة. الأنظمة تعليب للطاقات حسب الحاجات التي تريدها الدولة والاله والملكية الخاصة. وهي حاجات ملوثة كلها قمعية. فلا يمكن القضاء على الدولة بدولة بديلة، ولا على إله بإله بديل، ولا على ملكية خاصة بملكية خاصة. البديل الوحيد هو الفوضى، ومن هذه الفوضى يخرج النظام، وهو النظام الطبيعي الناجم من طبيعة الأشياء، وليس المفروض عليها.

الفوضى المبدعة

كيف نخلق هذه الفوضى المبدعة للنظام الطبيعي؟ لا حاجة لأي جهد، ولا لأي إدارة، يكفي أن يجري دكّ الأنظمة القائمة حتى تنطلق الفوضى لتخلق النظام الجديد الملائم، والقابل للتطور، أي إن الفوضى ستستمر إلى الأبد لترتقي بالإنسان نحو النظام الأكثر حرية وديمقراطية، من دون أن تكون هناك هيئات رسمية. إن الفوضى سوف تنشئ المؤسسات الاجتماعية المناسبة، وكل مؤسسة تستلم من مؤسسة الدولة المعنية مهماتها. ثم؟ ثم تنشأ حاجات جديدة، وتتهيأ ظروف جديدة، وأوضاع جديدة، وعن طريق الفوضى المبدعة يمكن تطوير القائم إلى الملائم.

ولكن ألا يمكن أن تتعقد الأمور وتنشأ الأزمات كما في السابق؟ بلى، ولكن الحل لن يكون كالسابق، لسبب وجيه، وهو أن الذين كانوا يحلون الأزمة في ظل الأنظمة السابقة كانوا مستعبدين للثالوث المذكور، بينما الذين سيحلون أي أزمة تظهر هم أناس أحرار، يتمتعون بأكبر قدر من الحرية. وعندما يعالج الحر الأزمة فإن هذه المعالجة تختلف جذرياً عن معالجة المقموعين والمضطهدين والمستعبدين. إنه حلّ النزاهة، وليس حلّ الغرضية المبيّتة.

وماذا عن الديمقراطية؟ إنها تنشأ بصورة طبيعية عن الفوضى المبدعة، فالديمقراطية ليست مبادئ نبتكرها، بل تنشأ من طبيعية العملية الاجتماعية، بعد أن تكون الفوضى قد فعلت فعلها. فالديمقراطية من عمل الفوضى التي تصفي الحساب مع الأنظمة القائمة. إنها نتيجة هذه الفوضى. وكل إدارة للفوضى من أجل خلق الديمقراطية تكون إدارة فاشلة. دع الفوضى تنطلق وسترى الإبداع في كل النواحي، وما الديمقراطية سوى ناحية واحدة. إن كل شيء سوف تنظمه الفوضى، من الإنتاج المادي حتى شكل إدارة المجتمع حتى علم الجمال والنشاط الفكري والفني… الخ.

هناك الكثير مما يمكن قوله عن المتشددين من أمثال ستيرنر وبرودون، والمتسامحين من أمثال باكونين وتولستوي، بل هناك الكثير مما يمكن قوله عن فوضوية باكونين نفسه، ولكن الغرض المتوخى هو هذه النقطة المركزية في الفوضى المبدعة، أو المولدة، أو الخلاقة

لماذا نادى باكونين بالفوضى؟ لأنه رأى أن كل نظام ينشأ يكون من صنع إمبراطور أو طبقة، أو رجال دين، أو فئة متسلطة، فهو نظام لا ينسجم مع طبيعة الأشياء، ولذلك هو نظام فاشل. وللوصول إلى النظام المفتوح المرن القابل للتطور وتلبية الحاجات لا بد من الفوضى التي ينشأ عنها كل شيء.

ولكن ألا يمكن أن تتغلب فئة على فئة، وتفرض عليها نظامها الذي تعتبره ناجماً من العملية الفوضوية الحرة؟ بلى، ولكن إلى حين، فالفئة المقهورة سوف تمارس حريتها وتخلع عنها كل نير يكبلها. قد تكون هذه الفئة صغيرة، بحيث لا تجد لنفسها فعالية تذكر. ولكنها في هذه الحالة تنضم إلى فئة فاعلة، ومن ثم تضغط بمطالبها في الظروف المناسبة، فتحققها.

ترى هل انطلق المحافظون الجدد من الفوضوية كنظرية مقتنعين بها، أم أنهم خططوا لحلم إمبريالي جديد يجنب الولايات المتحدة الكثير من العناء، ويضع على عاتق الفوضى الخلاقة generating instability مهمة تنظيم كل الأمور؟

فوضى المحافظين الجدد

إذا أخذنا فوضوية باكونين مقياساً، نرى أن فوضى المحافظين الجدد، وبعضهم من الأجنحة اليسارية، تجري تحت إشراف الإدارة الأميركية، وهذا خروج كامل عن نظرية باكونين. فالتدخل لإدارة الفوضى هو الذي يقضي على الفوضى. الفوضى ترفض أي تنظيم، لأن التنظيم يخرج عفوياً منها. التدخل لا يجعل ما تنتجه الفوضى منسجماً مع طموح العناصر التي تخوض الفوضى. سيكون هناك تحزب، والتحزب يقضي على عفوية الفوضوية، ولا يترك للمجتمع حرية إنشاء هيئات إدارته حرة. إن فرض اتجاه، ولو بنوايا نبيلة، يقضي على الفوضوية، ويبعدها عن سجيتها. وهذه الغلطة ارتكبها باكونين نفسه، فقد صار رئيس «لجنة الثورة» في ليون، فتدخل تدخلاً شرساً، وأثبت أن الديمقراطية التي دعا إليها ليست أكثر من قناع لدكتاتورية عنيفة أقامها في المدينة، وراح ينظم الأمور وفقاً لإرادته، لا وفقاً لفوضويته. حكم كدكتاتوري ليوم واحد، فكفر الناس به وبمبادئه. في المساء اعتقل، وتحت جنح الظلام هرب، مستغلاً الفوضى التي كانت تعم المدينة.

مهما قلنا إن المحافظين الجدد كانوا يحلمون بمشروع إمبراطوري يشمل العالم، وهو مشروع التغيير لتحضير الشعوب لعصر العولمة التي تديره أميركا، ومهما قلنا إنهم «استعماريون جدد» فإننا لا نستطيع أن ننكر السمات المشتركة بينهم وبين باكونين وفوضويته المشهورة. يقال إنهم أقرب إلى تروتسكي وثورته «الدائمة». ولكننا لا نظن ذلك، لأن تروتسكي يؤمن أن الثورة الدائمة تنشأ من المطالب المشروعة للطبقات الكادحة، وليس دفع القوى القائمة إلى الفوضى وصولاً إلى وضع مستقر. على أي حال ليست هذه الثورة الدائمة التروتسكية بعيداً جداً عن فوضوية باكونين.

ترى هل عادت الفوضوية كطريق وحيد للحل، بعد أن أعيتنا السبل، وبعد أن جرب الناس كل العقائد؟… ولكن هل نجحت فوضوية باكونين، أو حتى فوضوية تولستوي، حتى تكون مخرجاً وحيداً للأنظمة المرتبكة؟.

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى