أية رأسمالية عالمية بعد الكارثة؟
مطاع صفدي
فوكوياما الذي كان أعلن قبل حوالي عقدين، أن تاريخ البشرية قد انتهى بتتويج الليبرالية سيدةً مطلقة على العالم إلى الأبد. مُدشّناً بذلك أحادية الإمبراطورية الأمريكية، ها هو يعود اليود ليكتب أن أمريكا قد تخلت عن شارتها المميزة في تمثال الحرية القائم في مدخل ميناء نيويورك، واستبدلتها بشارة سجن غوانتنامو. لعله يريد من ذلك أن أمريكا أساءت التعامل مع هذه الليبرالية، نافياً كل سوء عن مذهبها العقائدي عينه.
وبالطبع ستكون المرحلة البوشية هي المسؤولة عن انهيار الممارسة إلى حضيض الكارثة في كل ميدان، من الدفاع (أو العدوان) إلى السياسة (أو الهيمنة)، إلى الاقتصاد أخيراً، أو تلك الحصيلة الإجمالية لشرعنة الفساد على مستوى الدولة والمجتمع، وجعلها النموذج المحتذى لمعظم دول المعمورة.
التاريخ لم ينته، ولن تكون له نهاية متوقعة من أية نظرية كانت. وليست تلك الليبرالية البالغة ذروة الأدلجة الزائفة، سوى ظاهرة فاسدة، أو كاذبة كما تقول الفلسفة. إنها محاولة لاختطاف التاريخ من منطقه الذاتي، وخروجه عن سِكَّتِه ولو إلى حين. إنها ظاهرة فقاعية، تماماً كفقاعة الاقتصاد الافتراضي، وذلك بحسب اصطلاحه المتداول عينه. إنها نوع من كوابيس الأحلام التي تراود نخبة الرؤوس الحامية، سواء جنت أرباحاً أم تكبدت خسائر. فالطابع الكابوسي هو المسيطر دائماً على العقل الاستهلاكي. فلا يمكنه أن يفكر بالأشياء كما هي، ولا أن يقيّم الأرقام بوقائعها. فهو مأخوذ دائماً في عواصف من دوامات الإغراء الفاحش بالمزيد من التشهّي والترغيب الغريزي، أو يكون مُطاحاً به في هاويات اليأس المدمر للذات وللآخر في آن معاً. ينقلب المجتمع الاستهلاكي إلى ما يشبه كازينوهات المقامرة، على شاكلة البورصة التي تتعاطى المقامرة بثرواته ومصائره.
البورصة هي الحكومة الفعلية في الدولة النيوليبرالية؛ عيون النخب الليبرالية مشرئبة نحو الأرقام الضوئية، أينما حل أصحابها أو ارتحلوا. وظيفة الوظائف في دول الخليج هي المداومة في قاعات البورصة، أو متابعة أخبارها في المكتب والسيارة وغرف الجلوس والنوم. الحواسيب المحمولة هي رسل السعادة أو التعاسة اليومية لآلاف آلاف المحترفين لبطالة المال، أو للمتشبهين بهم، أو السائرين في ركابهم. وول ستريت في نيويورك هو الشارع الخلفي للبيت الأبيض في واشنطن. هكذا غدت سياسة أعظم دولة في الألفية الثالثة أشبه بضربات المقامرة الشمولية، المقذوفة على أجنحة الأكاذيب والشائعات. فمن يقول مثلاً إن اجتياح العراق لم يكن أكثر من مغامرة جنونية، لم تجازف فقط بأرواح الملايين، بل كانت ليبرالية بوش تبيع الحرب بكوارثها الهائلة غير المحسوبة، مقابل أرباح فلكية لقلة من محتكري تجارة السلاح والنفط. بهذا المعنى لن يكون غزو العراق جنونياً بالنسبة لهذه الفئة من الطبقة المتملكة فعلاً من سلطة القرارات المصيرية. وقد يصل الأمر ببعض المستطلعين لحقيقة الإعصار المالي الحالي، إلى الجهر علناً بكونه نسخة مكررة عن حرب العراق، لكنها موجهة إلى الداخل الأمريكي، ومستهدفة أعظم خزان للمال المعولم غير المسبوق تاريخياً؛ أو بكلمة أخرى:إنها خديعة هائلة ينطبق عليها المصطلح القانوني: الإفلاس الاحتيالي. ومعناه المباشر أن المؤسسة المؤتمنة على أموال الآخرين، تسرق هذه الأموال ثم تدعي الإفلاس الذي يعفيها من التسديد لأصحابها، كما من المحاسبة القانونية أمام الدولة.
والأنكى من هذا أن الدولة الليبرالية لا تقبل بإطاحة إلا البعض القليل من هذه البنوك المفلسة. بينما تجمع دول الغرب على إعادة رسملة معظمها، دونما أية أسئلة شرعية عن مصير أموالها وعن قصة ضياعها. فالليبرالية الجديدة عندما تضطر إلى مساعدة الدولة وقت الأزمات، إلى درجة التخلي عن جوهر فلسفتها في التحرر من كل سلطة خارج سلطة السوق وحدها، فإنها بذلك تحقق غايتين متكاملتين، من جهة يغطي تدخل الدولة حقيقة الأزمة، ويحجبها سريعاً عن رقابة الرأي العام، كما أن إعادة رسملة البنوك سواء بالمال العام، أو بضمانات الدولة، سوف توفر لأصحاب هذه المؤسسات سيولة جديدة مرفقة باستعادة الثقة؛ ما يسمح لها بالدخول في دورة أخرى مستقبلية من تجميع وتكديس مدخرات الناس، واستثمارها، بانتظار لحظة انكشاف الخديعة الجديدة والالتفاف عليها سريعاً بتفجير الأزمة الكلية القادمة، كنسخة أخرى عن حال نشر الذعر الأهلي والحكومي من تهديد الإفلاس العام، والرد عليها بإعادة رسملة مؤسسة الصيرفة من المال العام، دونما اعتراض من قبل المجتمع المدني. ذلك هو التفسير العلمي لقانون المسيرة الرأسمالية، وأزماتها الدورية التي تضطر فيها إلى الاستنجاد بالدولة والمال العام، بينما تعمل في الحقبة (السلمية)، إن صح القول، ما بين الأزمة والأخرى، على طرد الدولة وتحجيم كل رقابة مجتمعية على أفعالها. فمن المعروف أن حملة الإنقاذ الحكومي التي تولاها الرئيس روزفلت طبقت نظرية العالم الاقتصادي (كينز) القائلة بضرورة وضع النظام الرأسمالي بكليته، وليس مؤسسته المصرفية فحسب، تحت طائلة الرقابة الدستورية، بمعنى أن الفعالية الرأسمالية لا تمتلك شرعيتها في ذاتها، فلا بد من خضوعها لسلطة القانون في مختلف عملياتها. وهكذا تتأسس رقابة المجتمع المدني على أخطر قطاعاته. فالثروة هي من طبيعة اجتماعية وإن كان تداولها يجري بين الأفراد. فكان من أهم ما دفع إلى تحقيقه ما يسمى (بالاتفاق العظيم) صدور ذلك القانون الذي يفصل بين فئات ثلاث من البنوك، التجارية ومهمتها محصورة بتغطية فعاليات الاقتصاد الإنتاجي، الموصوف بالحقيقي، وفئة البنوك الائتمانية الحافظة لمدخرات المواطنين، والفئة الثالثة تختص بأعمال شركات التأمين.
ظل هذا القانون ساري المفعول إلى أن جرى إلغاؤه في أواخر القرن الماضي، فصار بإمكان بنوك الفئات الثلاث هذه تشغيل أموالها جميعاً دون تمييز بين اختصاصاتها القانونية الأصلية المشرعنة. كان الغاء قانون الاختصاص هذا بمثابة سد حاجة السوق إلى الرساميل الكبيرة التي تؤسس مركزيته المنشودة في إيديولوجيا النيوليبرالية الصاعدة. وهو الوضع الذي ساعد على تحويل المال ذاته إلى أهم بضاعة تداولية في فلسفة السوق. ومن ثم حدث تجريد الرأسمال نفسه إلى سندات ووثائق ورقية. لم تعد البورصة هي فقط سوقا لأسهم الشركات الإنتاجيّة ذات الربحية المقننة، والمخاطر النسبية، كما كان عهدها منذ نشأة العصر الصناعي، بل سريعاً ما تراجعت مهماتها التقليدية هذه أمام غلبة عمليات المضاربة على (بضاعة) السندات وما اختُرِع بعدها من الوثائق والورقيات الحاملة لأرقام الرساميل المتنقلة بسرعة الضوء من حاسوب إلى آخر. ففي هذه المسافات الضوئية ليست ثمة حدود للأرباح الفورية، كما للخسائر كذلك. لكن كما في كل مجال اقتصادي تبرز فئة الغيلان الكبار لتستحوذ على أسرار اللعبة، بحيث تحتكر نتائجها المضمونة لصالحها وحدها. وأذكى سر فيها، مكشوف ومعروف للقاصي والداني، هو القادر دائماً على اجتراح أساليب المقامرة لامتصاص أموال الآخرين، وتكديسها بالأرقام القصوى؛ فلا يصمد في النهاية، ومع الثروات الخيالية، إلا المخططون والمالكون الأصليون للعبة، الظاهرون منهم وهم الأقل، والمتوارون وهم الأقوى والأفعل. إنهم الأعمدة الشفافة لهيكل الرأسمالية المالية. فالدورة الحالية للأزمة التي تكاد تُغْلَق على كوارثها الهائلة، مع موجة التصاعد المرآوي الفجائي لأرقام البورصة، هذه الدورة ينبغي ألا تعتبر هزيمة ساحقة للاقتصاد الافتراضي، بقدر ما هي إعادة تدوير لنفاياته أو لضحاياه.
لم يربح الجولةَ الاقتصادُ الحقيقي بالرغم من كل التدابير القانونية المشرعنة التي اتخذتها حكومات ضفتي الأطلسي معاً أخيراً. بل إن النظام السياسي للغرب هو الذي يهب لإنقاذ الرأسمالية التي لم تعد قادرة على حل أزمتها بقوة مؤسساتها وحدها. ومع ذلك فهي المنتصرة مجدداً، وإن بنجدة غريمتها، أي الدولة؛ وهو الأمر الذي يسمح للفكر الحيادي بالقول إن السياسة بمعناها الإغريقي الكوني، ليست هي العائدة بعد. لن يُتاح لها اليوم أو غداً، أن تتأبط مهمة القبطان التاريخي، المحرومة بل المطرودة منها، منذ انقياد العالم إلى الرأسمالية الأمريكية المنحدرة إلى أسوأ مراحلها، عندما يغدو أساس الرأسمال هو المال الافتراضي، الذي لا رصيد له إلا الترسمل بالديون من أرصدة الآخرين؛ فلم يعرف التاريخ أن أقوى أمة في المعمورة قاطبة إنما تعيش هي ودولتها ومجتمعها على (تجارة) الديون بالديون. أعظم كيان مادي، دولتي وإنساني، يصير له وجود افتراضي. ومع ذلك فهو الوجود الأقوى على سواه.. حتى مع الكارثة وإلى ما بعدها ربما..
أوروبا حاولت مؤقتاً ونسبياً إنقاد اقتصادها ومستقبل مجتمعاتها بأموال دولها الهائلة. فهل يأتي هذا الإنقاذ برديفه السياسي، وعنوانه: التحرر الأوروبي من تبعية القوة والمال معاً لعواقب الفضائح الأمريكية في الشأن العسكري فالسياسي فالاقتصادي الإحتيالي راهيناً. الكارثة المالية كادت أن تطيح بالأمن الاقتصادي للعالم كله. وهذا ما يتنبه له بعض العقل الأوروبي. فالحرب الموصوفة والمرتقبة دائماً، كحرب عالمية ثالثة محتومة، قد تكون هي الوجه الواقعي الرهيب للاقتصاد الافتراضي الوهمي عندما يستنفد كلّ ألاعيب الربح والخسارة بالأرقام إذ حدها. وعندما تصحو هذه الأرقام على المطالبة بأرصدتها الواقعية، لن تلقى سوى أصفار بعد أصفار.
مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي