ساركوزي يتلو ‘وثيقة استقلال’ أوروبا!
معن بشور
المشهد الذي جمع بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الرئيس الدوري للاتحاد الاوروبي، ورئيس المفوضية الأوروبية خوسه مانويل دوروا باروسو في منتجع كمب ديفيد مع الرئيس الامريكي جورج بوش، كان مشهداً استثنائياً في ظروف استثنائية، بل كان تاريخياً في مرحلة تاريخية حاسمة يعيشها عالمنا المعاصر.
فعلى صعيد الشكل، كان ساركوزي ممتلئاً بالحيوية والاندفاع على نحو يعكس تبدلاً خطيراً في موازين العلاقات مع رئيس كان حتى وقت قريب يأمر فيطاع يطلب فيلبى يتحدث فيصمت الآخرون، وبالمقابل كان بوش يرسم على وجهه ابتسامة باهتة لا يستطيع احد ان يحدد ما اذا كانت ابتسامة مرارة ام ابتسامة غريق يتمسك بالحبل الأوروبي، او ابتسامة جاهل لا يدرك تماما ماذا يقول ضيفه او انها الاحتمالات الثلاثة معاً.
أما على صعيد المضمون، فلم يكن ساركوزي مجرد ‘واعظ’ يحذر وينبه، ينتقد ويؤنب، يصارح ويحاسب، بل بدا وكأنه يتلو ‘وثيقة استقلال’ اوروبا من هيمنة امريكية طالما شكت منها القارة المطلة على الجانب الشرقي من الاطلسي، كما لم تستطع الى التخلص من شرورها سبيلاً، رغم انتفاضة هنا او هناك وكان آخرها انتفاضة شيراك ومعه شرودر الألماني عشية الحرب على العراق عام 2003 والتي سرعان ما تم اجهاضها مع احتلال العراق الذي كان احتلالاً لأرض الرافدين من جهة، كما كان احتلالاً لإرادة معظم شعوب العالم وفي مقدمها شعوب اوروبا وحكوماتها من جهد ثانية.
فرغم الأناقة الفرنسية المعهودة في اختيار الألفاظ والمصطلحات التي يجيدها ساركوزي (كما أجادها يوما وزير خارجية باريس دومينيك دوفيلبان في مجلس الأمن وهو يسرق اعجاب العالم ببلاغة الأديب، ووضوح المفكر، وجرأة السياسي الجاد المستند الى ثقة شعبه ومنطق الحق والقانون الدولي)، الا ان تصريح ساركوزي،والى جانبه بوش، تضمن كلاما نقديا ينطوي على مطالب محددة حتى لا نقول على شروط صارمة، بل ينطوي على نزعة استقلالية اوروبية متنامية لن تغيّر وجهتها ‘رشوة’ واشنطن لمواطني خمس دول اوروبية شرقية بإعفائهم من تأشيرة الدخول الى ‘الحلم الامريكي’، كما لم يؤثر فيها سابقا ‘تربيت’ بوش على كتف ساركوزي بعد انتخابه قبل عام واصفا اياه ‘بالصبي الطيب’.
فحسب ساركوزي فان ‘الأزمة المالية العالمية بدأت في نيويورك ويجب ان تحل في نيويورك’ عبر قمم دولية متعاقبة، طالما حاول بوش تجنبها، لأنها تعبر، في رأيه، عن دخول العالم مرحلة ‘التعددية القطبية’ اقتصادياً بعد ان دفع كلفة باهظة، على غير مستوى، كثمن لمقتضيات مرحلة القطبية الأحادية التي توجت العلاقات الدولية اثر سقوط الحرب الباردة في عالم ما بعد الحربين ‘الساخنتين’ في اوائل القرن الماضي وفي اواسطه.
و’مفاهيم القرن الحادي والعشرين وآلياته’، (الذي أراده المحافظون الجدد ‘قرنا امريكيا بالكامل’ حسب استراتيجيتهم التي قدموها يوما لكلينتون فتبناها بعده، عن ظهر قلب، جورج بوش وخصوصا نائبه ديك تشيني) هي حسب ساركوزي ‘غير مفاهيم القرن العشرين وآلياته ونظامه الدولي الجديد ‘الذي انبثق ماليا واقتصاديا في ‘بريتون وودز’ عام 1944 وتواصل سياسياً وعسكريا مع حروب العولمة التي قيل انها ستنهي الحروب في هذا العالم فاذا بالعالم يشهد معها ابشع حروبه واكثرها وحشية ودموية.
وليست مصادفة على الاطلاق ان يواكب التشكيك بأنظمة ‘بريتون وودز’ واتفاقياته وصناديقه، هذا الانهيار الواسع في اسواق المال العالمية، التي كانت على الدوام آليات نهب الفقراء والضعفاء لصالح قلة من الأغنياء والأقوياء، كما ان يواكبه في الوقت ذاته تحقيق في فضيحة شخصية لمدير صندوق النقد الدولي دومينيك ستروس بعد فضيحة مماثلة في ظروف سابقة لمدير البنك الدولي سيئ الصيت بول وولفوتز قبل فترة، فيكتشف العالم في الفضيحتين معاً تلازم الانهيار الأخلاقي مع الانهيار المالي في مؤسسات كانت حتى وقت قريب ‘صاحبة الأمر والنهي’ في كل قرار يتعلق بخبز البشر، ناهيك عن كرامتهم، وكانت وصفاتها ‘المقدسة’ عللا خطيرة تضاف الى العلل البنيوية القائمة اساسا في اقتصادات الدول فيزداد الفقير فقرا، والجائع جوعاً، والضعيف ضعفاً.
و’رأسمالية المستقبل’ والكلام ما زال لساركوزي ـ ممثل ‘ اوروبا القديمة’ ـ هي بالتأكيد غير الرأسمالية التي سادت في العقود الماضية والتي فتكت وشوهت ‘الأسس السليمة للرأسمالية’ ـ حسب الرئيس الفرنسي ـ بأكثر مما فعل أعداء الرأسمالية التاريخيون من هنا كان لا بد من اذن من معالجة اثارها المدمرة بإجراءات تضع القيود على ‘الحرية الكاملة’ للسوق، وتعيد الاعتبار لتدخل الدولة في الشأن المالي والاقتصادي، وهو تدخل يصل احيانا الى حدود ‘التأميم’ الذي ظن كثيرون انه بات من ‘المصطلحات الخشبية البائدة’، بل من خلال اجراءات تشدد على الرقابة والمحاسبة لهذا الانفلات الجشع تحت ستار ‘الليبرالية الجديدة’ ببرامجها الريغانية (نسبة لرونالد ريغن)، والثاتشرية (نسبة لمارغريت ثاتشر)، وصولا الى نظرية ‘الحروب الدائمة’ التي اعتمدها ‘التروتسكيون القدامى’ او ‘المحافظون الجدد’ في دوائر صنع القرار الامريكي كبديل لنظرية ‘الثورة الدائمة’ التي اطلقها الثوري البولشفي الحالم ليون تروتسكي لتلاحقه فيما بعد رصاصات جوزف ستالين وهو لاجئ في المكسيك.
اما ما جرى من انهيارات وخسائر فوراءها ـ حسب ساركوزي ـ ‘مسؤولون’ تنبغي محاسبتهم بشدة كي ‘لا يكرر الاشخاص انفسهم ما فعلوه من قبل عندما يعود الهدوء’، والكل يعرف كم باتت المسافة قصيرة، بين رجال السلطة ورجال المال في عالم اليوم، لا سيما في عهد بوش حيث انكشفت مع الايام الاولى لاحتلال العراق فضائح ‘هاليبرتون’ وافلاس ‘اونرون’ وعلاقة الشركتين بكبار المسؤولين في البيت الابيض معروفة، ناهيك عن المليارات التي اختفت في الطريق بين بغداد وواشنطن وتقاسمها سياسيون وعسكريون اتوا ‘لتحرير العراق’ فاذا بهم ‘يحررونه’ من الملايين من اهله ومن الكثيرمن خيراته.
حتى منظومة الدول الصناعية الكبرى الثمانية (7+1) (والتي هددت واشنطن باخراج موسكو منها قبل اسابيع)، لم تعد كافية، فلا بد من انضمام دول اخرى باتت تمتلك قوى اقتصادية نامية واحتياطيات نقدية هائلة كالصين والهند واليابان والنروج وروسيا وسنغافورة بالاضافة الى دول عربية كالامارات والسعودية والكويت، بل ان الدول دائمة العضوية في مجلس الامن لن تعود محصورة بالدول الخمس دون غيرها فلا بد ـ حسب كبار المسؤولين في الامم المتحدة ـ ان تكون لافريقيا، وامريكا اللاتينية، مقاعد دائمة العضوية في المجلس الذي كان يفترض ان يضمن ‘السلام والامن في العالم’ ليتحول في العقدين الاخيرين الى ‘مجلس ادارة’ يضمن مصالح الشريك الاكبر فيه وهو الشريك الامريكي الذي ـ مع ذلك ـ لم يكن يخفي تململه ـ بين الحين والاخر ـ من الامم المتحدة نفسها ويريدها اكثر انصياعا ورضوخا.
وبهذا المعنى، فما اعلنه ساركوزي بصراحة في كمب ديفيد (ما غيرها) لم يكن اكثرمن بداية ‘استقلال اوروبي’ عن الهيمنة الامريكية، وهو استقلال شبيه بالاستقلال الروسي الذي انبلج فجره مع الحرب الجورجية الخاطفة، فكانت الازمة الاولى التي فجرها سكاشفيلي (الاستاذ الجامعي السابق في الولايات المتحدة) هي الوجه العسكري والسياسي للازمة المالية التي فجرها ‘السكاشفيليون’ المتغلغلون بخبث في ردهات (الوول ستريت) والساكنون في تفاصيل مؤشرات داو جونز وناسداك وغيرهما، والمتلاعبون باحتيال فائق بمدخرات المتقاعدين وثروات من انطلت عليهم الحيل المختبئة في دهاليز الاسهم حتى لا نقول طلاسمها. نحن اذن امام عالم تنتزع فيه دوله الاكبر، بل قاراته، استقلالها الواحدة تلو الاخرى، وتعاد فيه صياغة العلاقات الدولية، والمؤسسات الدولية، والانظمة الدولية، على اسس جديدة.
واذا كان من حقنا ان نذكر ان قوى المقاومة والممانعة في منطقتنا العربية والاسلامية، خصوصا في العراق ولبنان وفلسطين وافغانستان والصومال والسودان وسورية وايران، قد ساهمت بشكل فعال في انضاج هذا التطور الحاسم وتسريعه، وانها كانت تحرر العالم فيما هي تحرر بلدانها وشعوبها، فان من واجبنا في الوقت ذاته ان نسعى الى التضامن والتماسك بين دولنا، والى المصالحة والوحدة داخل اوطاننا، والى الادخار والاستثمار في اقتصاداتنا، والى التوازن والمشاركة في مجتمعاتنا، فنحجز لامتنا ولمنطقتنا الحضارية الأوسع مقعدا في العالم الجديد الذي بدأ يتشكل هذه الايام؟
فهل سنكون بمستوى حقوقنا وواجباتنا في آن؟!