الأزمة المالية العالمية تبث الذعر بين النخبة المصرية الحاكمة
محمد عبد الحكم دياب
العالم المشغول بالبحث عن حلول عملية وناجعة للأزمة المالية الطاحنة التي حلت به وتهدد استقراره أقر بخلل وفساد الرأسمالية، خاصة منظومتها المالية والمصرفية التي أدت إلى ذلك الانهيار المريع، أما في مصر فإن المسؤولين، وهم في الأصل رجال مال وأعمال يتغزلون في الرأسمالية، ويصر صاحبهم وزعيمهم جمال مبارك وأعضاء لجنته ( لجنة السياسات ) على سلامتها وقوتها. فما حدث، من وجهة نظرهم، لا يعدو أن يكون سحابة صيف سرعان ما تنقشع ..’
والأزمة لا تدينها ولا تعيبها، وبدوا وكأنهم المدافعون الوحيدون عن نظام يواجه مصيره باعتراف أصحابه ورواده، وقادة العالم وهم يواصلون الليل بالنهار بحثا عن نظام بديل ، وهم بهذا يكشفون مستوى حكام مصر وغياب أي علاقة تربطهم بالواقع ومشاكله، ومشكلة الأزمة أنها حلت في فترة الاستعداد لعقد مؤتمر الحزب الحاكم، بكل ما يجلبه على البلاد من عار ووبال ومصاعب، وبكل ما فيه من مفاسد تجد ترجمتها في تمويل رجال المال والأعمال له، كأفضل استثمار يحقق لهم أضعاف أضعاف ما يدفعون. والغوص في الأ عماق يلقي مزيدا من الضوء على حال مصر وما وصلت إليه، فرجال المال والسماسرة وأصحاب الوكالات الأجنبية من الحكام لا يستطيعون رؤية الوقائع من منظورها الصحيح ولا كما يراها المواطنون المنتجون والمطحونون. ولهذا أصابتهم صدمة قوية حين عرفوا حجم الخسارة التي منوا بها وأفقدتهم ما جمعوا ونهبوا من أصول وثروات، لم تكن ملكا لهم في يوم من الأيام، والتقديرات المبدئية تشير إلى أن ثروات الثلاثين مليارديرا، المسيطرين على الحكم والثروة، والتي تقدر بأربعمئة مليار جنيه مصري فقدت نصف قيمتها، وهذ ا بدوره أفقدهم صوابهم، وذهب مبعوثهم إلى المملكة العربية السعودية في محاولة لإنقاذ الموقف، بما تملك السعودية من فوائض نتيجة ارتفاع أسعار النفط، خلال العامين الماضيين، وترتب على هذه المحاولة أن قام حسني مبارك باستقبال سمير جعجع، أحد أمراء الحرب في لبنان، و المدان بأحكام قضائية لارتكابه جرائم ضد الإنسانية أزهق فيها أرواح المئات، منها مذبحة صبرا وشاتيلا واغتيال الرئيس الراحل رشيد كرامي وعدد من مرافقيه، وتبعه وليد جنبلاط، وقد تستغل حاجة رجال الحكم للمال تعويضا لخسائرهم في طلب مساعدتهم للتغطية على عملية أمنية متوقعة ضد شخصية عربية افريقية، ثأرا منها عما اتهمت به من سنوات بتدبير مؤامرة ضد شخصية نافذة في مجلس التعاون الخليجي!! .
حالة الذعر التي يعيشها رجال المال والأعمال من الحكام وأصحاب النفوذ في مصر شلت التفكير وأربكت الخطط والمشروعات المعدة لمؤتمر الحزب الحاكم، وأهمها خطة تعزيز مواقع جمال مبارك.. الحاكم الفعلي للبلاد، وتهيئة الظروف لانقلاب قصر على حسني مبارك، وورد بعض هذا المعنى في ثنايا حديث نشرته صحيفة ‘نهضة مصر’ مع نجم العلاج الاستثماري والسياحي اللامع !! حسام بدراوي .. يقول : ‘ جمال كان نقطة إضاءة سمحت لنا باختراق هذا النظام الثابت والمستتب عبر الأربعين سنة الماضية . وبدون وجوده كان من المستحيل وجود أي خط جديد ‘.. ويواصل تزكية جمال مبارك بالقول : ‘ جمال فرصته هي الأكبر، لأنك عايز ناس أصغر سنا وأكثر حركة وانفتاحا، ولكن مرة أخرى اختيار الأفضل …. ليس الأفضل فقط بل والذي يستطيع النجاح أمام مرشحي الأحزاب الأخرى ‘!! ، والأزمة بما أفرزت من صراع على المال العام لتعويض خسائر الحكام من فئة الحيتان قد تؤجل الصراع على كرسي الرئاسة، وتغطي على ما كان مخططا له في مؤتمر الحزب الحاكم، الشهر القادم .. والواضح أن المشكلة المعقدة عالميا أضحت أكثر تعقيدا في مصر.. لغياب الحلول العامة.. والتركيز على الحلول الشخصية والعائلية. وهذا يعود إلى العقم المزمن للتشكيل العصابي الحاكم، ومرد هذا العقم إلى حالة الإعاقة الذهنية المصاب بها، ومحدودية ذكاء أعضائه الفطري والمكتسب ، ولهذا فهم أعداء أنفسهم، قبل أن يكونوا أعداء غيرهم.. إنهم يعانون فقرا معرفيا وعلميا وعقليا، لم يصل إليه نظام حاكم لمصر في السابق، والعودة إلى أصل الأشياء تبين أن الأزمة المعرفية بدأت في النمو في عهد السادات وزادت مع حكم حسني مبارك واستفحلت في عصر ابنه، الذي لم يتحمل وجود أكاديميين وفنيين ‘ تكنوقراط ‘ وإداريين استعان بهم والده عندما كان صاحب قرار، واستبدلهم برجال أعمال وسماسرة وأصحاب توكيلات أجنبية وبلطجية .
ومثل هذه العقلية لا تستطيع استيعاب وفهم المتغيرات والتحولات الداخلية والاقليمية والدولية، لا الآن ولا في المستقبل. فهم الجيل الثاني الأباء تعروا تماما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، و زوال الكوابح التي وفرتها الثنائية القطبية، واتساع رقعة التحرر والاستقلال الوطني، وتعدد تجارب التنمية الشاملة، وتأثير دول عدم الانحياز . بعد زوال الكوابح ارتاح ذلك الجيل لترديد الأكاذيب الغربية والصهيونية، فلم يمنحوا أنفسهم فرصة التروي من أجل الحفاظ على مكاسب كانت قد تحققت لبلدهم، فزينت لهم أطماعهم وجهالتهم الغواية فسقطوا في بئرها، منبهرين بما حدث، فقدموا وطنهم وشعبهم قربانا للمال وثمنا للخيانة، وتصوروا، كما قيل لهم، أن هناك نظاما عالميا جديدا قد قام، وعليهم تلبية متطلباته، ولم يكن هذا مؤكدا، فقد كانت هناك أوضاع ومتغيرات إقليمية ودولية جديدة تستوجب الدراسة والبحث، ولو كان بينهم حكيم أول عاقل لكشف لهم أن سقوط القطب الثاني في النظام الثنائي لا يعني قدرة القطب الأول على البقاء والاستمرار، فالكسور لا تصنع أحادا و الأطلال،لا تقيم بنيانا وما حدث هو استغلال الولايات المتحدة للفرصة والادعاء بأنها أسست لنظام آخر وعليها رعايته، وأسمته العولمة، وكان من الممكن أن يتحول هذا الادعاء إلى عمل جاد لو عبر عن إرادة عامة لدول وشعوب العالم، ولو تأسست له آلية مناسبة . وبدلا من ذلك استعادت السياسة الأمريكية آليات العمل القديمة للنظام الاستعماري التقليدي، وعادت إلى أدوات القرن التاسع عشر، بلغة أكثر أناقة وتقانة أكثر تقدما، وأعطت نفسها حق الإنابة عن عالم لم يفوضها وقررت أن العولمة جاءت تتويجا لانتصار الرأسمالية، وتعزز هذا التوجه بظهور فلسفة ‘نهاية التاريخ’، ونشر أيديولوجية ‘صراع الحضارات’، وأضحى القطب الرأسمالي الأوحد هو الأولى بالاتباع والتقديس. وترتب على ذلك أن منح نفسه فرض قوانين السوق بعشوائيته وفوضاه، والزم الدول الأخرى بإعادة هيكلة اقتصادياتها وفقا لذلك، بغض النظر عن أي نجاح أو تقدم تحقق، فكل ما سبق ذلك فشل ووهم!!، وبذلك تعالى على التجارب الإنسانية، حتى حكمه الأغبياء وذوو العاهات الذهنية والعقلية. وفي الحقيقة لم تكن العولمة إلا ‘ الأمركة ‘ بمعناها المتوحش، ونحن العرب والمسلمين نعلم مدى فداحة الثمن، لأننا دفعناه من أرضنا وثرواتنا وكرامتنا وأعصابنا ومستقبل أجيالنا .
القصور الذاتي لدى التشكيل العصابي الحاكم، و المعاق ذهنيا وسياسيا وفكريا وعلميا، جعله لا يعي بأن الرأسمالية تظاهرت بالوداعة عندما كانت في موقع الدفاع، وحين عادت سيرتها الأولى ظهرت على حقيقتها، ولم توفر وسيلة لإذلال الشعوب والسيطرة عليها إلا واستخدمتها .. حلف شمال الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، والمصرف الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمات المساعدة الإنسانية والعمل ‘الخيري’، وجماعات التبشير، والأمم المتحدة.. المختطفة من الإدارة الأمريكية لشرعنة أعمالها وتصرفاتها وحروبها، غير القانونية وغير الإنسانية. وآلات إعلام جهنمية لغسل المخ ونشر ثقافة الإرهاب والحروب والتعصب والكراهية، واستدارت على الدولة الوطنية وسهلت اختراقها وافتراسها والتدخل في شؤونها، وكونت ومولت لحسابها منظمات غير حكومية تكون جسر اختراق وتدخلاً من وراء ظهر الدولة الوطنية، وتعميق ولاء مواطنيها للقوى الصهيونية والغربية. وقد جاء ذلك في وقت تمكن فيه المحافظون والليبراليون الجدد، الذين اتخذوا من تراث وأدبيات ‘ المسيحية الصهيونية ‘ مرجعية لهم.. تمكنوا من السيطرة على البيت الأبيض وعدد من العواصم الغربية، وغلبت الصهينة على القرار الغربي . فسحق العالم بدباباته ومجنزراته ونيران مدافعه وطائراته وبوارجه، وقطع أوصال الاتحاد اليوغوسلافي السابق، ثم جاء بوش الأب ثم بوش الابن فتوجها نحو الوطن العربي والعالم الإسلامي .. بالحصار والغزو والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتقسيم والتفتيت الجغرافي والسياسي، وسرعان ما سقطت العولمة مع نهايات الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة، ولأن الأزمة المعرفية متفاقمة بين حكام مصر فما زال خطابهم المحنط يلوك مفردات وتعبيرات العولمة، بعد أن ذهبت ليعود الغزو والاحتلال بصورته القديمة، وفتر حماس الإعلام الغربي، الذي كان يدعو ليلا ونهارا للعولمة، لدور منظمات ‘ المجتمع المدني ‘ وفي عصر ‘ ما بعد العولمة ‘ حل العمل العسكري محل الإجراءات الاقتصادية ( السوق والهيكلة ) ، وتغيرت لغة الخطاب الأمريكي التجريبية ( البراغماتية ) إلى واجبات ومقولات رسالية مقدسة، وتوارت شعارات حقوق الإنسان والحريات خلف متطلبات التعصب الشوفيني والأمن القومي الأمريكي والصهيوني، وتبعا لذلك تراجعت مطالب التغيير السلمي في البلاد التي تعاني من الاستبداد والفردية، فضلا عن سقوط الفروق بين المقاومة المشروعة للاحتلال والاستيطان والغزو وبين أعمال الإرهاب، وادرجت جماعات المقاومة الوطنية على قوائم التصفية، كجزء من الحرب العالمية ضد ‘ الإرهاب ‘!! بالإضافة إلى التدخل السافر في إعادة صياغة ثقافة الشعوب ومعتقدات الأمم، ونظم التعليم والتأهيل والتربية على قواعد إلغاء الذاكرة الوطنية وتعميم قيم التمييز واللصوصية والاستكبار، وفيما بعد العولمة اعتمدت الإدارة الأمريكية على الإجراءات الاستثنائية، التي عابت عليها وانتقدتها في دول العالم الثالث، وجاءت إجراءاتها الاستثنائية لمواجهة العالم الخارجي، خاصة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وأصبح القانون الأمريكي هو الحاكم لقوانين العالم وسيدها، وضربت الحصانة الممنوحة للمواطن الأمريكي عرض الحائط بسيادة الدول على أرضها ومواطنيها وأوضاعها . وكان من نتيجة ذلك أن قادت الإدارة الأمريكية الإرهاب على أوسع نطاق، وأنهت الوسطية وأدخلت العالم إلى عصر التطرف والتوحش الشامل، وفيه منحت نفسها رخصة التدخل لإسقاط نظم حكم لا ترضى عنها باسم الديمقراطية، فكانت انتكاسة للعالم وتشويها للديمقراطية، وبذلك تحول العالم إلى غابة. وليت قومي يعلمون! وللموضوع بقية.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن
القدس العربي