نهاية الليبرالية أم نهاية لعبة القمار الكونية؟
محمد الحداد
قدمت الأزمة المالية الحادة التي عصفت بالأسواق العالمية فرصة جديدة للتأكد من الخبط الذي يعاني منه جزء غير يسير من خطابنا الإعلامي والثقافي.
فقد انفرد عن كل التحاليل المقدمة في العالم بشبكة قراءة ذات طبيعة أسطورية، تقوم على فكرتين وهميتين أولاهما المؤامرة، والثانية الانهيار القريب لليبرالية وعودة العالم إلينا لنعلّمه قواعد الاقتصاد السليم!
كان مضحكا ومقرفا في آن واحد أن نتابع المشعوذين على بعض الفضائيات المتخصصة في الإثارة يحللون لنا الأزمة، وقد غابت عنهم حقيقة تاريخية واضحة هي أن الأزمات جزء من طبيعة النظام الليبرالي، فهو يواجهها باستمرار وبصفة دورية. وكان كارل ماركس قد استنتج من ذلك أن هذا النظام سينهار على وقع إحدى تلك الأزمات، لكن نبوته لم تتحقق: فالليبرالية نجحت باستمرار في أن تجد مخارج لأزماتها، وهي في صدد إيجاد مخرج للأزمة المالية الحالية التي لن تكون أكثر ضررا من سابقتها سنة 1929.
العالم المصنّع يخشى اليوم فترة ركود وتراجع في معدلات النمو. ما معنى ذلك؟ معناه ببساطة أن المجتمعات المصنعة لن تحقق تقدما لمدة سنة أو سنتين وستبقى على نفس الوضع الذي كانت عليه في السنة الماضية. هم يرون ذلك مصيبة كبرى، ونحن نشمت بهم، نحن الذين لا يقاس تأخرنا بالسنوات بل بالقرون!
لا أدعي أن الليبرالية نهاية التاريخ أو أنها لن تنقرض في يوم ما، لكن ذلك لن يحصل في الأمد المنظور، أي على مدى جيل أو جيلين من الآن، والسبب بسيط هو عدم وجود أي نظام حالياً يمكن أن يمثل بديلا حقيقيا. فالصراع اليوم يدور داخل النظام الليبرالي نفسه وبين مدرستين في صلبه: مدرسة متطرفة استفادت من أحداث 11/9/2001 لتفرض قواعدها ومفاهيمها على الجميع، وهي تتجه الآن نحو الانهيار الاقتصادي (بموازاة انهيارها السياسي المتوقع قريبا مع الانتخابات الأميركية)، ومدرسة معتدلة يمكن أن تستعيد المبادرة وتعيد الروح لمبادئها الكبرى، ومنها تغليب اقتصاد المنتجين على اقتصاد المضاربين، وإخضاع أصحاب الأموال لاستراتيجيات المؤسسة بدل إخضاع المؤسسة لأهوائهم ورغباتهم في الربح السريع، ووضع قواعد عالمية تطبق على الجميع وتتكفل الدول والمنظمات الدولية مراقبتها وتنفيذها، والحرص على التكامل بين السوق الاقتصادية والدولة التي تعبر عن الإرادة المشتركة لمواطنيها، واعتبار العمال جزءا من المؤسسة وليس جزءا من السلعة التي تتصرف فيها المؤسسة كما تريد، وتغليب منطق الربح الطويل الأمد على منطق الربح السريع والمغامر، الخ.
وقد ينسب البعض هذه المدرسة الثانية إلى ألمانيا لأن مؤسساتها تتميز بالقوة والصلابة وتطبق مبدأ التضامن الاجتماعي، أو ينسبها البعض الآخر إلى اليابان حيث قيمة الإنشاء أقوى من قيمة المضاربة والمؤسسة تحتفظ بعمالها مدى الحياة والنزاعات المالية أمام القضاء محدودة ويعتبرها اليابانيون غير أخلاقية، أو ينسبها آخرون إلى المجموعة الأوروبية التي تصر على احتفاظ الدول بدور في التحكم في الاقتصاد وتعتبر ذلك جزءا من ممارسة السيادة.
لكن الحقيقة أن التنافس بين المدرستين يخترق كل المجتمعات وإن اختلفت موازين القوى بين مجتمع وآخر بسبب تنوع التجارب التاريخية. والولايات المتحدة التي جسدت المدرسة الأولى لفترة طويلة، منذ عهد الرئيس رونالد ريغان على الأقل، قد تقلّل شيئا فشيئا من ثقتها بالليبرالية المتطرفة وتقترب من الاتجاه السائد في المناطق الأخرى من العالم، خاصة أن فترتي الذروة في التعصب الأميركي للمنوال الليبرالي الأول كانت دوافعه سياسية أكثر منها اقتصادية، ونعني فترة الرئيس ريغان ومشروعه لإسقاط الاتحاد السوفياتي بخنقه اقتصاديا، وفترة بوش الابن وحربه على الإرهاب التي خاضها بطريقته الخاصة.
فالعناصر التي منحت القوة للمنوال الأول ليست عناصر اقتصادية بحتة. وفي الوقت الذي تتعالى فيه أصوات من الغرب تطالب بتشريك الدول النامية في تسيير النظام المالي والاقتصادي العالمي، لن يكون للعرب دور إذا ما أصروا على التمسك بقراءات وبدائل ذات طبيعة أسطورية أو انفعالية، ولا يمكن أن تكون لهم مساهمة حقيقية إلا داخل هذا الصراع الذي وصفنا، صراع ليبرالية ضد أخرى.
لن نعيش في الأمد المنظور نهاية الليبرالية، لكن يمكن أن نعيش في القريب العاجل نهاية لعبة القمار العالمية التي وضعها الليبراليون المتطرفون وأحلّوها اقتصادا قائم الذات على حساب المؤسسات المنتجة وحقوق العمال ومصالح الشعوب.
الحياة