صفحات أخرى

التحدّي المذهبي للعلمانية العربية: كتاب جورج طرابيشي

null


خالد غزال

يشهد العالم العربي والاسلامي اندلاعا لصراع اسلامي- اسلامي بين طائفتيه الرئيستين السنية والشيعية، وهو صراع لم يسبق ان اتخذ هذا المنحى المذهبي منذ قرون عديدة. يتداخل في هذا الصراع من كلا الجانبين اللاهوتي بالسياسي مما يضفي على النزاع حرارة وتوترا مرتفع المنسوب.
تتبدى بوضوح الآثار السلبية لهذا الصراع على النسيج الاجتماعي في كل مكان يتداخل فيه الطرفان ويترك انعكاساته على العلاقات الاجتماعية والسياسية فيدخلها مدخل الافتراق وتأسيس عداوة تصل الى حدود القطيعة.

اثيرت نقاشات من كثير من النخب حول افضل الوسائل لتجنب هذا الصراع الذي تمتد جذوره في التاريخ، واستحضرت الحالات المشابهة في غير مكان كمثال على معالجة مثل هذه الصراعات، وكانت العلمانية ابرز الحلول لهذه الاشكاليات وجوابا عن الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي. من الذين تطرقوا الى معالجة هذه الاشكالية الكاتب السوري جورج طرابيشي في كتابه الاخير بعنوان” هرطقات2، عن العلمانية كاشكالية اسلامية –اسلامية“.

سبق لاوروبا ان شهدت نزاعا بين طوائفها ومذاهبها امتد لسنوات بين الكاثوليك والبروتستانت ودفع ثمنه الاوروبيون مئات الالاف من الضحايا ولم ينتهِ الا بعد صراع مرير بين المجالين السياسي والديني وانتهى الى الفصل بينهما وتحديد مجال كل واحد عبر نظام علماني يعطي للدين حقوقه ويعطي الدولة المدنية سلطتها في شؤون المواطن. لم يخلُ هذا الصراع من استحضار الدين المسيحي وتوظيف كل طرف لنصوصه بما يتوافق مع توجهاته، وهو ما اوجد تراثا لاهوتيا جعله كل طرف اساسا للصراع دفاعا عن الحقائق المطلقة التي يعتبر كل جانب امتلاكها فيما يقيم الآخر في الكفر والهرطقة. هكذا عرفت اوروبا تزييفا للصراع السياسي بين الدول والمقاطعات وسعى رجال الدين وخصوصا البابوات لامتلاك السلطتين الزمنية والدينية.

لا يختلف الصراع الاسلامي – الاسلامي في الجوهر عما شهدته اوروبا في القرون الماضية. يعود هذا الصراع في الاصل الى النزاع على السلطة والثروة بين القبائل والعصبيات الموجودة اتخذت لها عنوانا النزاع على الحق بخلافة الرسول. تداخل هذا الصراع مع معطيات ناجمة عن التوسع الاسلامي في المناطق ودخول اقوام جديدة ذات تاريخ وتراث اثرت بالوافد الاسلامي وتأثرت به. نجم عن هذا النزاع انقسامات في المجتمعات الاسلامية وبروز احزاب وفرق متعددة وصل عددها الى حوالى 72 فرقة. وعلى غرار ما حصل في اوروبا، تداخل الصراع السياسي بالمعطيات الدينية المتأثرة بدخول الاسلام مناطق جديدة، ولجأ كل طرف الى وضع الدين بنصه القرآني والاحاديث النبوية واحكام وفتاوى الفقهاء في خدمة هذه النزاعات بحيث ينتقي كل طرف ما يناسب وجهة نظره ويجعل منها الحقيقة الوحيدة فيما تقبع سائر الفرق في الكفر ويتحدد مصيرها في نار الآخرة. وكما استقطب الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت الساحة الاوروبية، تمحور النزاع الاسلامي بين قطبيه من السنة والشيعة.

انتج الطرفان الاسلاميان تراثا يمتزج فيه الدين بالسياسة مما ولد منظومة فكرية- ايديولوجية بدأت بالتكون منذ اندلاع النزاع قبل 1400سنة وما زالت تتوالى مفاهيمها لدى فقهاء الطرفين حتى الزمن الراهن، وهي منظومة تنظّر لنبذ كل طرف وتزرع افكار الحقد

وتستخدم الرموز التاريخية لتبيان استحالة التعايش.

يقدم طرابيشي لوحة معبرة عن تطور المنظومتين الايديولوجيتين. تركز المنظمة الايديولوجية السنية على اعتبار الشيعة مرتدة عن الدين الاسلامي، وتطلق عليها اسم “الرافضة”، ولا ترى انتسابا لابناء الشيعة الى الاسلام، وتذهب الى تكفيرهم ورفض اقامة علاقات معهم. ويذهب بعض الفقهاء الى القول بان الرسول احلّ قتل “الرافضة”. ازدهرت الايديولوجيا السنية تجاه الشيعة على يد ابن تيمية الذي دعا الى قتال فرق الاسلام المخالفة وفي مقدمها الشيعية الامامية. واتخذت فتاوى ابن تيمية بعدا سياسيا بعد ان اصبحت عقيدة الدولة السعودية على يد محمد بن عبد الوهاب، والتأكيد على الاقصاء والتكفير والنبذ للروافض الشيعة.

في المقابل اتخذت فتاوى ائمة الشيعة ومرجعياتها الدينية المنحى نفسه الذي اتخذته السنة، فسميت السنة “النواصب”، حيث يتحدد “الناصب” بمن ينصب العداوة لاهل البيت، والصقت بالنواصب صفة النجاسة. وذهب فقهاء الشيعة الى اعطاء مفهوم النجاسة بعدا لاهوتيا، وهو ما ترتب عليه ممارسات طالت الحياة المشتركة والعلاقات اليومية العامة بما فيها احكام المعاشرة. هكذا زرع ايديولوجيو الشيعة والسنة بذور الحقد والكراهية بين الطرفين، وهو ما يجد ترجمته اليوم في العلاقة المتوترة بينهما وانفجارها عنفا في اكثر من مكان.

لا ينفصل انبعاث النزاع الطائفي اليوم في العالم العربي عن فشل هذا العالم في الدخول في الحداثة وعن مدى الاقامة الطويلة للتخلف في ربوعه. لم يكن لهذا الصراع دوره الحالي زمن النهوض القومي والاجتماعي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن فشل هذا المشروع التحديثي الذي عرفته المنطقة في ذلك الزمن والنتائج الارتدادية التي نجمت عنه وخصوصا الهزائم امام العدو القومي والعجز عن تحقيق الوعود في التقدم، كلها من العوامل المسؤولة عن عودة الموروث الطائفي وطغيانه على الحياة العامة والخاصة.

يطرح استخدام الدين في السياسة وتوظيفه في الصراعات الاجتماعية والسياسية قضية مركزية تتصل بالسبل القابلة لمنع هذا الاستخدام. يعتبر الفقهاء من السنة والشيعة ان الاسلام بخلاف المسيحية هو دين ودولة في الان نفسه، وهو امر يبرر دعواتهم الى اعطاء الدين الاولوية في التشريع والحكم. تثبت كل وقائع التاريخ الاسلامي منذ وفاة الرسول ان الاسلام لا يحوي نظاما للدولة، وان ما عرفه التاريخ كان على الدوام استخدام السلطان السياسي للدين ومؤسسته في تسويغ السلطة السياسية واضفاء المشروعية عليها. في هذا المجال، كثيرا ما لجأت السلطة السياسية الى اعطاء دور ما للمؤسسة الدينية في سياق العلاقة التبادلية بين الطرفين بما يكفل للسلطة السياسية تبعية المؤسسة الدينية لها واصدار الفتاوى اللازمة لقوانينها وتشريعاتها. لذا يتطلب الامر اعادة الدين الى موقعه الحقيقي بصفته الروحية والاخلاقية وفصله عن المجال السياسي من اجل ان يتمكن من القيام بدوره الفعلي.

لم تنهِ اوروبا حروبها المذهبية الا بعد ان تمكنت قواها الاجتماعية والسياسية من الفصل بين المجالين السياسي والديني عبر اعتماد العلمانية نظاما للدولة والمجتمع. لم تعنِ العلمانية يوما الغاء للدين او الطوائف، بل العكس تماما فان ما تدعو اليه حقا هو كيفية ممارسة كل مجال لعمله بما يسمح للدين من تطوير قضاياه الروحية والاخلاقية بحيث يمكنه ان يلعب دورا ايجابيا في الحياة العامة. في المقابل وحدها العلمانية تتيح للمجال السياسي عبر الدولة ومؤسسات المجتمع الاهلي والمدني ممارسة دورها بما يخدم التقدم والتطور. وحدها العلمانية تسمح بالتعددية والاعتراف بالآخر وبالمساواة امام القانون دون تمييز بين العرق او الجنس او المذهب والطائفة. يشترط ذلك اقتران العلمانية بالديموقراطية التي وحدها يمكن ان تحقق مثل هذه الانجازات.

تبدو هذه العلمانية العنصر المقرر في تمكين اللاهوت الاسلامي بشقيه السني والشيعي من ان يتحرر من مقولتي “الرفض” و”النصب” ولازمتيهما في التكفير والنجاسة. لا يبدو الامر مبسطا في الزمن الراهن، فتحقق مثل هذا الانجاز سيكون حصيلة مشروع نهضوي حديث في جميع المجالات السياسية والدينية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. لا تبدو قوى هذا المشروع متكونة بشكل يتيح تحقيقه، مما يعني ان زمنا سيمتد من اجل ولادة قوى مناهضة لهذا الاسر للمجتمعات العربية والاسلامية في قمقم الطوائف والمذاهب.

(•) جورج طرابيشي – هرطقات 2، عن العلمانية كإشكالية اسلامية – اسلامية – “دار الساقي” – “رابطة العلمانيين العرب” – 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى