صفحات أخرى

التكلفة الباهظة للحرب على العراق

null


عمر كوش

من المبكر اليوم إجراء جردة حساب كاملة أو تقييم نهائي للغزو الأميركي للعراق واحتلاله، لكن التكلفة باهظة جداً على مختلف الصعد، ويمكن أن تزداد بالنظر للمعطيات الواقعية.

وتشير حصيلة خمس سنوات من احتلال العراق إلى المأزق الكارثي، الذي جسّده فشل المخطط الأميركي، بل والاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وتحوّل العراق إلى بلد مدمّر، يتقاذفه القتل والتعصب والفساد وبنادق الاحتلال والفوضى والجماعات المسلحة المتناثرة وفرق الموت وطاحونة الإرهاب، ويخيّم عليه شبح الحرب الأهلية الشاملة. وفضلاً عن ذلك كله، فقد صاحب الفشل الاستراتيجي الأميركي فشلاً أخلاقياً مرفوقاً بالخزي والعار اللذين أثارهما تصرّف قوات الاحتلال والمتعاونين معها، حيث كانت فضيحة سجن “أبو غريب” رمزهما الأقوى، وإن لم تكن الوحيدة.

ولا يكترث الساسة في الإدارة الأميركية لهول الكارثة التي سببها الاحتلال الأميركي للعراق والعراقيين، ويعلنون باستمرار رفضهم الشديد للدعوات المتزايدة وللأصوات المرتفعة التي تنادي بالانسحاب التدريجي من العراق، ويؤكدون إمكانية تحقيق انتصار أميركي في حربهم الطويلة على “الإرهاب” في العراق، ويتصورون أن عليهم خوضها في المدن والمناطق العراقية، بدلاً من أن تنتقل هذه الحرب في المستقبل إلى المدن الأميركية. وعلى الأرض تنفذ القوات الأميركية حملاتها العسكرية، بوصفها عقوبات جماعية على كل المناطق الرافضة للاحتلال، فيما المعلن من هذه الحملات هو اجتثاث العنف، لكن حقيقة الأمر تبين أن قوات الاحتلال تسهم في تأجيجه ونشره. وعليه يكاد لا يمّر يوم من أيامنا هذه إلا ويسقط العديد من العراقيين، وتقع أكثر من مجزرة جديدة. ويبدو أن نهر الدم العراقي لن يتوقف عن التدفق بغزارة شديدة، بعد أن وصلت الأمور إلى درجة بالغة في التعقيد، إذ بالرغم من المأزق الكارثي للمشروع الأميركي في العراق، فإن لا أحد يستطيع التنبؤ أو معرفة المآل الذي ستؤول إليه الأمور في العراق، وأي مستقبل ينتظر العراق بعد كل هذا الخراب؟

ولا شك في أن التكلفة باهظة جداً للحرب على العراق، وتسهم في إضعاف الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن تدمير الدولة العراقية، حيث تشير التقارير إلى أن عدد القتلى العراقيين تجاوز 1,2 مليون، واقترب عدد الأميركيين في العراق من أربعة آلاف، وباتت جدوى الاستمرار في احتلال العراق موضع تساؤل لدى معظم الأميركيين، بدءاً من الأميركي العادي وانتهاء بالأدميرال وليم فالون، قائد القيادة الوسطى للقوات الأميركية الذي استقال مؤخراً، وكان أحد أسباب استقالته اختلافه مع الرئيس بوش ومع قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس.

ويذهب العديد من المحللين إلى القول بوجود دوافع خفية للحرب على العراق، مصلحة إسرائيل وقوتها من ضمنها. وقد روجت الإدارة الأميركية لدوافع كاذبة من أجل شرعنة الحرب وتبريرها، ومع ذلك فإن احتلال العراق لم يسهم في منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، بل أنه قوّى طموحات العديد من دول المنطقة من أجل امتلاكها، وفي مقدمتها إيران. وفقدَ الخطاب السياسي الأميركي مصداقيته، لأن الحرب لم تعمل على وقف الإرهاب، بل على العكس من ذلك غذته وكرسته، وبات العراق بؤرة تنتج وتجتذب الإرهاب في العالم. ولم يعد أحد يصدق ادعاءات الإدارة الأميركية بتضخيمها للخطر النووي الإيراني، لأنها لم تجلب سوى ولايات حروبها العديدة للعالم، وقادت حربها في العراق إلى ارتفاع جنوني في أسعار النفط، ملحقة الضرر بالاقتصاد العالمي، حيث كانت أسعار النفط قبل الغزو الأميركي العام 2003 أدنى من 25 دولارا للبرميل الواحد، لكن الحرب غيّرت الاستقرار الذي كانت تعرفه أسواق النفط، فارتفعت أسعار النفط إلى ما فوق المئة دولار للبرميل.

وكان المسؤولون في الإدارة الأميركية يأملون في أن يقوم شركاء الولايات المتحدة بتسديد فاتورة الحرب على العراق، وأن يكفل النفط العراقي تعويض الخسائر الأميركية. لكن النتيجة بعد خمس سنوات من الاحتلال هي أن المأزق الكارثي العراقي شكّل ثاني أطول حرب في التاريخ الأميركي بعد فيتنام، واحتلّت تكلفتها الباهظة المرتبة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية. وقد كشف الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد “جوزيف ستيغليتز”، عن أن الحرب الأميركية على الإرهاب في العراق وأفغانستان ستكلف دافعي الضرائب الأميركيين قرابة 3 تريليونات دولار. ولعل ما يزيد في تفاقم الوضع الاقتصاد الأميركي هو أنه يمرّ بفترة من الركود تزيد من حجم الضغوط عليه، ويعاني من ارتفاع تكاليف الحرب التي بلغت خلال هذه السنة لوحدها 200 مليار دولار.

ومعروف أن الإدارة الأميركية سعت على الدوام إلى الالتفاف على هذه التكلفة المهولة وإخفائها، في حين أن ثلاثة تريليونات دولار كان يمكن، حسبما يبيّن ستيغليتز، أن توفر 8 ملايين وحدة سكنية في الولايات المتحدة، وأن تبني 15 مليون مدرسة عمومية، وتضمن الرعاية الصحية لحوالي 530 مليون طفل لعام واحد، وتؤمن منح جامعية لـ43 مليون طالب. وكان يمكنها أيضاً أن تسهم في إعمار منطقة الشرق الأوسط برمتها، لكن المشكلة هي في أن جنرالات الحرب ضيّعوا أموال الأميركيين، وقتلوا آلاف العراقيين، وجلبوا الفوضى وعدم الاستقرار لمنطقتنا التي هي بأمس الحاجة للأمن والاستقرار والتنمية، بدلاً من الحروب والاحتلالات والتدخلات. وبصرف النظر عن الارتدادات والإرهاصات الإقليمية والدولية الحاصلة نتيجة الاحتلال الأميركي، فإن الصورة في العراق تقدم الدليل الواضح على الفشل الذريع في الاستراتيجية التي اعتمدتها الإدارة الأميركية خلال السنوات الخمس الماضية. ويظهر الفشل على أكثر من صعيد، بحيث لم يعد بإمكان هذه الإدارة تغطية فظاعة وهول المشهد العراقي بالحديث المراوغ عن النجاح في تكريس الديمقراطية وتحويلها إلى معطى سياسي على الأرض. فالوعد بالحرية التي ما انفكّت الإدارة الأميركية تعلن عنه في تصريحات مسؤوليها، تحوّل في الواقع إلى مجرد موت يومي للشعب العراقي الذي عانى من الاستبداد، ويعاني اليوم من أهوال كارثة ما بعد الحرب التي يشرف الاحتلال على تنظيمها وتنفيذها. والأخطر من ذلك هو أن محاولة تبرير الحرب الأميركية غير القانونية وغير الشريعة تحولت إلى كارثة باسم الديمقراطية، وبات الديمقراطيون العرب هم الخاسرون في بلدانهم وبين شعوبهم التي تنظر إلى داومة القتل والعنف والفوضى في العراق، فتشكر الله على واقع الحال مقارنة بالكارثة التي ارتكبت باسم الحرية والديمقراطية.

كاتب من سورية

السبت, 22 مارس 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى