ما بين تركيا وإيران
منذر خدام
ما بين تركيا، وإيران، يوجد العرب، كساحة للفعل نموذجية، هيأتها أزمات العرب المتناسلة، بعضها من بعض، بتأثير الخارج حينا، ونتيجة النظام السياسي العربي دائما. ساحة للفعل، لتحقيق المصالح، وتأكيد النفوذ، وديمومته، لكل طامع في ثروات العرب أولاً، ولكل معادي لهم غالباً،إنه الغرب، بدوله جميعها، وفي مقدمتها كانت تقف بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، لتلحق بهم، قائدة، الولايات المتحدة الأمريكية، وصنيعتهما جميعاً” إسرائيل”.
اللافت، في المدة الأخيرة، هو دخول إيران، ومن ثم تركيا، إلى الساحة العربية، لتصير قصة دخولهما، خلال مدة زمنية قصيرة، الشغل الشاغل، للطبقة السياسية العربية، وللجمهور العربي، على حد سواء. ليس هذا وحسب، بل أصبحت القصة عينها، محط تركيز، اهتمام الفواعل السياسية الدولية، خصوصا، أولئك الذين حرصوا دائما، على إبقاء الساحة العربية مباحة لهم، ساحة للتنافس، وتأكيد النفوذ، من أجل تحقيق المصالح الاقتصادية، والسياسية، والإستراتيجية، أعني الفواعل الأوربية، والأمريكية.
لقد شكل الدخول الإيراني، ومن ثم التركي، إلى المجال السياسي العربي، علامة بارزة، في العقد الأخير، من خلال نجاحهما اللافت، في جذب الاهتمام المحلي، والدولي، وتركيزه عليهما، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، من خلال نجاحهما، في تأسيس قاعدة قوية، لمصالحهما الخاصة، سواء من الناحية الرسمية، أم الشعبية. وفي كلتا الحالتين، ساهمتا، ولا تزالان تساهمان، في تحريك المياه السياسية العربية الراكدة، و تنشيط النقاش السياسي، والأكاديمي، والشعبي، حول أسباب هذا الدخول السياسي اللافت، ومنطلقاته، وأهدافه القريبة، والبعيدة.
وحتى لا يتكون انطباع، بأننا نضع إيران، وتركيا، في خانة واحدة مع الدول الغربية، وإسرائيل، نود التأكيد، على إن الدخول الإيراني، والتركي، إلى الساحة العربية، هو دخول طبيعي، فهما يتحركان ضمن مجالهما الحيوي الإقليمي، بحكم كونهما، دولتان أصيلتان، وعريقتان، في المنطقة، يتشاركان مع الدول العربية، فضاء ثقافياً واحداً، وجزءاً من تاريخهما. بكلام آخر فهما ليستا دولتين وافدتين إلى المنطقة، من خارجها، أو مفروضتين عليها، كما هو حال الدول الغربية، وإسرائيل. أضف إلى ذلك، فهما من حيث المبدأ دولتان صديقتان، بل صديقتان بالفعل، لبعض الدول العربية، في حين إن الدول الأخرى، هي دول معادية، هكذا كانت في المنطلق، وفي التاريخ، وسوف تكون على الأرجح، كذلك في المآل، مادامت إسرائيل موجودة ككيان صهيوني، وما دام الفلسطينيون مطرودون من أرضهم، وما دام العرب مجزئين، إلى دويلات من صنعهم، وما داموا يأخذون بالحسبان مصالحهم الخاصة فحسب. ولهذا فإن أية مقارنة، بين الدور الذي تؤديه إيران، وتركيا ، على الساحة العربية، ينبغي أن يأخذ بالحسبان، ما سبق التنويه إليه.
من الناحية التاريخية، ثمة مشتركات كثيرة، بين السياسة الإيرانية، والتركية، تجاه الدول العربية، يمكن إبراز أهمها فيما يأتي:
1- كلتا الدولتين كانتا،حتى وقت قريب، في حالة خصومة مع العرب، إيران في ظل حكم الشاه،وتركيا من خلال علاقاتها الوثيقة، والإستراتيجية، مع إسرائيل، قبل أن يتولى حزب العدالة والتنمية، زمام السلطة في تركيا.
2- كلتا الدولتين تحتلان أجزاء من بعض الدول العربية، إيران تحتل عربستان، وبعض الجزر الإماراتية، وتركيا تحتل لواء الاسكندرون السوري.
3- كلتا الدولتين دخلتا، إلى المجال السياسي العربي، من بوابة العداء، أو الاختلاف، مع إسرائيل.
4- كلتا الدولتين تتحكمان بالموارد المائية العربية،في المشرق العربي، الأمر الذي يترتب عليه، هواجس معينة في سورية، والعراق.
5- لدى كلتا الدولتين مشاريع وطنية كبيرة، يسعيان في المجال العربي، لتأمين بعض عناصر نجاحها.
إضافة إلى الجوانب المشتركة، في سياسة إيران، وتركيا، تجاه العرب، هناك جوانب اختلاف جوهرية، نذكر منها:
1- دخلت إيران إلى المجال السياسي العربي، من بوابة الأيديولوجية، إي من خلال الترويج لنموذجها الإسلامي في الحكم، وفي بناء الدولة. في حين دخلت تركيا من بوابة السياسة، ومن خلال الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية. وتقديمها لنموذجها العلماني الديمقراطي في الحكم.
2- تسعى إيران لتأكيد رفضها لوجود إسرائيل، وهي لا تعترف بها، وهذا تطلب منها بناء تحالفات قوية، مع حركات المقاومة العربية، وتقديم الدعم العسكري، وغير العسكري، لها.
من جهتها تركيا، وهي تعترف بإسرائيل، وتقيم معها علاقات وطيدة، تسعى إلى إيجاد حل سياسي تفاوضي، لقضية فلسطين، ولقضايا الصراع العربي الإسرائيلي الأخرى، ولهذا فهي تقيم علاقات سياسية ودية، مع جميع الأطراف، بما فيها حركات المقاومة، في فلسطين ولبنان.
3-أججت إيران موضوعياً، نوعاً من الصراعات المذهبية، بين سنة وشيعة، في حين أدى دخول تركيا، موضوعياً أيضاً، إلى تخفيف حدة هذه الصراعات المحتملة، من جراء خلق نوع من التوازن مع إيران.
3- تسعى إيران إلى تأكيد نفوذها في العراق، من خلال دعم بعض المكونات الطائفية فيه، لأنها لا تريد، أن يعود العراق موحداً، وقوياً.
أما تركيا فعلى العكس، تريد أن يعود العراق مستقراً، وقويا، وموحداً، خشية انفصال شمال العراق، وتكوين دولة كردية، تسيطر على نفط كركوك، ونفط شمال العراق، مما يمنحها مزيدا، من القوة للتأثير الموضوعي، أو المباشر، في أكراد تركيا.
4- تسعى إيران، لتأكيد قوتها العسكرية في المنطقة، مما يولد هواجس معينة، خصوصاً، لدى بعض الدول العربية في الخليج. في حين تسعى تركيا لتأكيد نفوذها السياسي، والاقتصادي، في المجال العربي. مما خلق أيضا بعض النفور لدى دول عربية معينة، وفي طليعتها مصر.
5- تسعى إيران لتأمين نفوذها لدى الجمهور العربي، من خلال دعم حزب الله، وحركة حماس، وغيرها من القوى السياسية العربية، المنضوية في إطار ما يسمى، قوى الرفض العربي. في حين تسعى تركيا، إلى تأمين نفوذها، لدى الجمهور العربي، من خلال الثقافة، التي تشكل المسلسلات التركية رأس حربتها، ومن خلال العلاقات الاقتصادية، والتجارية، والسياحية، إضافة إلى المواقف السياسية المناصرة،لحقوق الشعب الفلسطيني، والمعادية، بمعنى معين، لإسرائيل.
ويبقى السؤال كيف يتلقى العرب الدور السياسي الإيراني، والتركي المستجد؟
لقد اختلف العرب فيما بينهم، في تقويم، كل من الدور السياسي الإيراني والتركي في المجال السياسي العربي. ففي حين وقفت سورية مع إيران منذ قيام الثورة الإيرانية ولا تزال، ودفعت ثمنا باهظا لقاء ذلك، من خلال مقاطعة أغلب الدول العربية لها، التي وقفت ضد إيران منذ البداية أيضاً، خوفاً من الحمولة الأيديولوجية الكبيرة لثورتها، بل شجعت ودعمت العراق في حربه ضدها، لتكتشف لاحقا صواب الموقف السوري، وخطأ موقفها، خصوصا بعد غزو العراق للكويت.
أما بالنسبة لتركيا، فكانت علاقاتها، مع أغلب الدول العربية طبيعية، لكنها كانت متوترة، كثيراً مع سورية، من جهة، بسبب دعم سورية، في حينه، لحزب العمال الكردستاني، وإيوائها لزعيمه عبد الله أوجلان على أراضيها. ومن جهة ثانية، بسبب علاقات تركيا القوية بإسرائيل، ورفضها الطابع الدولي لنهري الفرات ودجلة، وامتناعها عن إيجاد حل عادل لاقتسام مياه النهرين بينها، بين كل من سورية والعراق، وفق القانون الدولي، ومبادئ حسن الجوار، والحقوق التاريخية المكتسبة، وغيرها من المبادئ التي تحكم هذا المجال.
بعد غزو أمريكا للعراق، بدأت إيران تتدخل، بصورة قوية، في شؤونه، عبر دعمها لحلفائها من القوى السياسية العراقية، بل ثمة أدلة على تدخلها المباشر فيه. في الواقع لم يقتصر التدخل على إيران وحدها، بل تدخلت قوى إقليمية عربية، وغير عربية في شؤونه، وهي لا تزال تتدخل دفاعا عن مصالحها الخاصة، والضيقة في كثير من الأحيان. بل اتهمت إيران من قبل دول عربية عديدة، خصوصاً في الخليج العربي، واليمن، ومصر بالتدخل في الشؤون الداخلية، لهذه الدول من خلال دعمها، للأقليات الشيعية فيها. وتوترت العلاقات أكثر، بين هذه الدول، وإيران بسبب مشروع هذه الأخيرة النووي، ورأت فيه تهديدا امنيا استراتيجيا لمصالحها، متبنية الرؤيا الغربية للقضية، ونسيت أو كادت تنسى التهديد النووي الإسرائيلي الفعلي، لوجود العرب ذاته. في هذا الجانب على الأقل، ليس موقف الدول العربية المذكورة، صائباً، وسوف تكتشف لاحقا، وأرجو أن لا تتأخر كثيراً، أن المشروع النووي الإيراني هو عنصر قوة للعرب وهو لا يهددهم، بل يهدد إسرائيل من جراء خلق رادع فعلي لها، يعيد إلى المنطقة نوعا من التوازن.
وينبغي أن لا ننسى، دعم إيران للفلسطينيين، في استعادة بلدهم، ولسورية في استعادة أرضها المحتلة، وللبنان لردع إسرائيل، من الاعتداء عليه.
بصورة عامة، يمكن القول، إن المواقف العربية من إيران، تختلف باختلاف التزاماتها السياسية الخارجية غالباً، وقليلا ما تنبع من مصالحها الوطنية بالذات. هذا لا يعني إن إيران لا تتحمل جزءا من المسؤولية، فمواقفها المتناقضة من القضايا العربية، في العراق وفلسطين، واحتلالها للجزر الإماراتية، ورفضها التحكيم الدولي لحل المشكلة، ودعمها لحركات التشيع، وما يصرح به بعض قادتها، بين الحين والآخر، تجاه البحرين، أو تجاه قضايا الأمن في الخليج، أو تهديدها لبعض الدول الخليجية، بضرب الوجود الأمريكي، والغربي فيها، في حال اعتدت الدول الغربية عليها، جميعها مواقف سياسية تولد الشك والريبة تجاهها.
أما بالنسبة لتركيا، فإن مواقفها السياسية، أقل إشكالية تجاه الدول العربية، خصوصا، بعد تحسن العلاقات السورية التركية، ونجاح سورية اللافت، في جذب تركيا لدعم القضايا العربية، وخصوصاً، دعمها المواقف العربية تجاه قضايا التسوية السلمية لقضية فلسطين، واستعادة سورية ولبنان لأراضيهما المحتلة. لقد أخطأ العرب في السابق في عدم الانفتاح على تركيا، كما أخطأت تركيا في توطيد علاقاتها مع إسرائيل ضد مصالح العرب.
غير إن إدراك سورية، لأهمية الدور التركي في المنطقة، دفعها إلى تجميد بعض قضايا الخلاف معها، خصوصا ما يتعلق بلواء الاسكندرون، في سبيل الاستفادة من العمق الاستراتيجي التركي،في المجالات الاقتصادية والسياسية. من جهتها تركيا، حينما أدركت استحالة، قبولها في الاتحاد الأوربي، وإن مصالحها الإستراتيجية، هي في بيئتها الإقليمية، حيث تشكل الدول العربية جزءا مهما، من مجالها الحيوي، إضافة إلى الدول الإسلامية، في أواسط أسيا، بدأت تكثف من حضورها الفاعل، في هذه الدول، عبر المنتج الثقافي، والاقتصادي، والسياسي، وقد وجدت قبولا رسميا، وشعبيا لافتا.
إن غياب العرب، عن ساحة الفعل السياسية، والاقتصادية، وغياب أي مشروع نهضوي حقيقي، سواء على صعيد الدول العربية منفردة، او على صعيدها مجتمعة، هو المسؤول عن إباحة الساحة العربية، للآخرين، البعيدين منهم، أو القريبين. لا ينبغي أن يلام احد، وهو يدافع عن مصالحه، في مجالنا العربي، بل اللوم كل اللوم على العرب، الذين لا يستطيعون الدفاع عن مصالحهم، في مجالهم الخاص، عداك عن مجال الآخرين.
عندما يقوم العرب من سباتهم، لن تكون تركيا، وإيران في صف أعدائهم، بل دعما لهم، سواء من خلال التنافس مع مشاريعهم التنموية، أو من خلال التعاون الاقتصادي والسياسي الإقليمي.
الحوار المتمدن