صفحات مختارة

صفحة مطوية من تاريخ كتبه الآخرون: جمال باشا السفاح وهوس الاعتلاء على عرش سوريا

فاضل بيات
لم ينل أحد من رجالات الدولة العثمانية شهرة واسعة بين العرب مثلما نال القيادي في جمعية الاتحاد والترقي احمد جمال باشا السفاح.. تعرّف العرب اليه لأول مرة عندما تولى ولاية بغداد (1911-1912)، حيث قام بوضع الحجر الأساس لسدة الهندية المقامة على نهر الفرات والتي تعد من أشهر الآثار المعمارية التي خلفها العثمانيون في البلاد العربية في هذه الفترة. إلا أن شهرة جمال باشا عند العرب جاءت بعد أن كُلّف من قبل الاتحاديين بقيادة العمليات العسكرية ضد الانكليز في مصر وذلك خلال الحرب العالمية الأولى، وكان يتولى وزارة الحربية وقيادة الجيش الرابع. وعلى الرغم من ان الرجل كان يريد ان يحقق في هذه العمليات نصرا يرفع من شأنه وبخاصة تجاه غريميه أنور وطلعت باشا، إلا انه فشل في تحقيق هذا الهدف، فترك ميدان المعركة ليستقر في مقره بالجيش العثماني الرابع المرابط في الأراضي السورية. واقترن اسمه في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العلاقات العربية العثمانية بإعدامه ثلة من القوميين العرب، بعد ان قدمهم للمحاكم العرفية متهما إياهم بالخيانة العظمى للدولة العثمانية. وتعرض بسبب ذلك لانتقادات شديدة من مختلف الأوساط…
والحقيقة ان هذه الانتقادات أو بالأحرى التنديد الذي تعرض له جمال باشا لم يصدر من العرب فقط، بل حتى من الأتراك أنفسهم من مختلف أوساطهم العسكرية والسياسية، حتى اعتبر العسكري التركي رحمي اباك «ما قام به جمال باشا خطأ فادحا من الناحية السياسية»، ورأى انه «كان عليه ألا يشنقهم بل أن ينفيهم أو يحجزهم إلى نهاية الحرب، وينتهج سياسة معتدلة تحول دون حدوث رد فعل سلبي وبهذا كان من الممكن تفادي ذلك، إلا أن قائدا ذا طبيعة قاسية كجمال باشا لا يمكن ان يفهم أمرا كهذا..». كما كان الجنرال علي فؤاد أردن، وهو رئيس أركان جمال باشا واقرب المقربين إليه ضد إعدام الكوكبة الثانية. أما الدبلوماسي التركي عبد الأحد اقشين فيقول: «إنني مضطر إلى الاعتراف بأن ما يدعو إلى الحزن الكبير هو عدم إبداء رجل مثل جمال باشا تفهما لهذه المسألة…»، ثم يتساءل: «ألم يكن بوسعه استبدال حكم الإعدام أو تأخيره على الأقل ولا سيما في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تخوض حربا مع الأعداء؟ ألم يكن الوضع يتطلب ذلك؟».
والحقيقة أن ما أقدم عليه جمال باشا لم يكن في صالح الدولة العثمانية، وإنما كان يصب بالدرجة الأولى في مصلحة المخططين لتدمير الدولة العثمانية وتفكيكها وفصل البلاد العربية عنها، وتخريب العلاقات التاريخية القائمة بين العرب والأتراك، وهم الذين سعوا إلى استغلاله واتخاذه في ما بعد دليلا على ما اختلقوه من «حقد وضغينة وعداء يكنه الأتراك تجاه العرب»…
أقول «في ما بعد» لأنه كما يبدو من مجريات الأحداث التي جرت أن الآثار السلبية التي ولدتها إعدامات جمال باشا في سوريا قد بولغ فيها مبالغة كبيرة، لأنه لم ينظر إلى هذه الإعدامات في بداية الأمر غير كونها تصرفا طائشا أقدم عليه جمال باشا في سوريا خلال الحرب.. فهو الذي يتحمل مسؤوليتها بشكل مباشر، ولا شأن للأتراك في هذا الأمر. ولهذا فإنها لم تؤثر سلبا في العلاقات العربية التركية، بل استخدمت بشكل خاص من قبل الدوائر الاستعمارية في ما بعد دافعا لخلق عداء مزعوم بين العرب والأتراك، ولا سيما عند وقوع البلاد العربية في قبضة الدول الاستعمارية، ومحاولة القوميين العرب في سوريا التقرب من الكماليين في الأناضول للاتحاد معهم من جديد. فقامت الدوائر الاستعمارية بتسخير الأقلام لتجسيد هذا العداء وإذكائه. ولم يتردد أصحاب الأقلام المأجورة إلى جانب الأقلام المخدوعة في إطلاق العنان لأفكارهم ليروا في جمال باشا ذلك النموذج التركي الذي ينفر من العرب والسفاح الذي لا يتردد في التنكيل بهم وقتلهم.. واختصروا بذلك التاريخ العثماني برمته في شخصيته.. ونجحوا نجاحا كبيرا في زرع الحقد والكراهية في قلوب الأهالي، وما رُسِّخ في أذهانهم ما زالت تداعياته مستمرة لحد الآن ولا يمكن إزالتها بسهولة، حتى أصبحت الدولة العثمانية «دولة استعمارية» لا همّ لها سوى امتصاص خيرات العرب واضطهادهم والتنكيل بهم…
ولا نريد هنا مناقشة هذا الموضوع الشائك، لكن من حقنا ان نثير تساؤلا: إذا كان كل ما طرح من دوافع لما قام به جمال باشا لا يجانب الحقيقة فما الدوافع الحقيقية التي تقف وراء عمله؟ لنترك الجواب لأحد رجالات الدولة العثمانية، عمل مع الاتحاديين ردحا من الزمن، وتولى في سنة 1919 وزارة الحربية العثمانية وهو سليمان شفيق باشا، ففي مذكراته أسدل الستار عن مسألة شكلت منعطفا خطيرا في العلاقات العربية التركية وسرا ظل أو أريد له ان يظل في طي الكتمان. كتب سليمان باشا عن جمال باشا قائلا: كان جمال باشا يريد أن يجعل من سوريا ولاية ـ أو بالأحرى ـ دولة مستقلة يديرها هو، ويستشهد هنا بما صرّح به وزير الخارجية الروسي خلال الحرب العظمى، وهو سازانوف لإحدى الصحف الأوروبية بعد ان وضعت الحرب أوزارها: ان جمال باشا أجرى اتصالا مع الروس بوساطة البطريركية الأرثوذكسية في دمشق، وطلب مساعدتهم في تنصيبه ملكا على سوريا. ووعدهم في حالة تحقيق ذلك بأنه سيقوم بالعمل على القضاء على حكومة الاتحاد والترقي في اسطنبول، وسيدير ظهره إلى الألمان حلفاء العثمانيين في الحرب.
ويبدو ان الرُّوس اقتنعوا بالفكرة، وكان يهمهم تفكيك الدولة العثمانية، إلا أنهم كانوا يتحاشون اتخاذ قرار خطير كهذا بمفردهم دون إجراء اتصال بحلفائهم في الحرب وخاصة الفرنسيين، وبالفعل اتصلوا بهم وعرضوا عليهم الفكرة. ويبدو أن جمال باشا كان متأكدا مكن ان جهوده ستثمر نتائج ايجابية فقام ببعض الترتيبات اللازمة في سوريا وعلى رأسها إزاحة القوميين العرب عن طريقه، وعدم إبقاء أي عائق يحول دون تنفيذ خطته أي نصبه ملكا على سوريا، فقام بالإعدامات المذكورة. لكن تلاشت آماله بعد ان جاءه الرفض الفرنسي، لان فرنسا كانت ترى نفسها صاحبة الكلمة في مستقبل سوريا، ولا يمكن لأحد من أتباع العثمانيين ان يتحكم بمصير سوريا.
ورب سائل يسأل: إذا كان هذا الادعاء صحيحا فلماذا بقي طي الكتمان حتى الآن ولم يتم نشره وخاصة من قبل الروس أو الفرنسيين؟؟ والحقيقة ان الجواب لا يخفى على أي محلل وهو: ان القوى الاستعمارية كانت تثير الأسباب والدوافع التي تخدم مصالحها وتوجهاتها وتخفي الأسباب التي لا تخدم هذه المصالح، وكانت تسعى جاهدة بل تعمل المستحيل من اجل زرع الفرقة والكراهية والعداء بين المسلمين بشكل عام وبين العرب والأتراك بشكل خاص، وما العزف على أوتار «سياسة التتريك المزعومة» التي أوهمت بها العرب بان الدولة العثمانية تنتهجها ضدهم إلا ثمرة مما زرعته في هذا المجال.. وهو موضوع جدير بالتوقف عنده…

[ أكاديمي عراقي
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى