صحافة التصفيق
د. مأمون فندي
لا أعتقد أن فضيحة الخلافات العربية العربية في قمة دمشق، كانت أكبر من فضيحة قطاع كبير من الإعلام العربي الذي صاحب هذه القمة. ففي المؤتمرين الصحافيين اللذين عقدهما أمين الجامعة العربية عمرو موسى ووزير الخارجية السوري وليد المعلم قبل القمة وفي ختامها، كان الصحافيون مجرد مصفقين ومجموعة أقرب ما تكون إلى المهرجين.
ورغم نقدي المتكرر لمهنية قناة “الجزيرة”، إلا أن مراسلها عباس ناصر كان هو الوحيد الذي سأل الوزير المعلم في المؤتمر الصحافي الختامي، سؤالا مهنيا محددا عن تقدير سورية لاحتمالية ضربة أميركية. أما بقية الأسئلة فكانت من مدرسة التصفيق، وليس التصفيق فحسب، إنما التصفيق بطريقة معينة.
لا أعتقد أن هناك من شاهد هذا المؤتمر الصحافي ولم يخجل لحال الصحافة العربية، ليس لدي شك في أن لدينا في العالم العربي صحافيين مهنيين ومحترفين، ولكني لم أجدهم في المؤتمرين الصحافيين للقمة، كانت هناك مجموعات من (الهتيفة) ومناضلي الفضائيات. مجموعة تعرف التصفيق فقط، ولم تكن باحثة، كما هي مهمة الإعلام، عن معلومة تفيد مشاهدا أو قارئا يريد أن يعرف حقيقة ما جرى في القمة، أو ما سيتمخض عنها من نتائج.
كيف لمؤتمر صحافي في نهاية قمة أثارت جدلا كبيرا وانقسم الرأي العربي حولها، ووصفها بعضهم بأنها قمة التضامن العربي في حين وصفها بعضهم الآخر بأنها قمة الشقاق، كيف لقمة على هذا القدر من الإثارة الإعلامية أن تكون فيها الأسئلة في المؤتمرين الصحافيين اللذين غطياها، على هذا القدر الذي رأيناه من التفاهة والتهريج؟
كانت لافتة إجابة وليد المعلم عن سؤال مراسل إذاعة “صوت العرب”، حيث قال: “نحن لسنا كصوت العرب نحن أناس واقعيون!”.. ولو كنت مكان مراسل صوت العرب لقلت “يا أرض ابلعيني”. كان واضحا أن صوت العرب منذ هزيمة 1967 حتى الآن لم تتغير. الصحافي (المناضل) السائل بدا كأنه رجل من أهل الكهف لم يعرف أن الدنيا قد تغيرت من حوله، وأن هذا الخطاب التهييجي قد اهترأ، وأن إقحام اسم صدام حسين ومقارنته بأي زعيم عربي آخر هو أمر لا يروق للجميع. بصفتي مصريا أحسست بخجل شديد أن رجلا كهذا وجد من يقتنع به في مصر كصحافي، بل وأرسله إلى الخارج! إنها فضيحة لصحافة مصر بكل المقاييس.
صحافي آخر قال إنه مصري من تلفزيون “المنار”، ووجه خطبة عصماء لا سؤالا للوزير السوري، متحدثا بلسان المصريين كلهم، ناسيا أنه صحافي لا وزير خارجية أو سفير لبلاده، وقال إن “العلاقة بين مصر وسورية أكبر من الصخب الإعلامي”. إذا كان الصحافي بنفسه يقر بأن ما تثيره الصحافة المصرية وغير المصرية من تساؤلات حول القمة وتسليط أضواء على خلافات أو اتفاقات أو محاولتها لكشف المناطق المعتمة في السياسة العربية هو مجرد صخب إعلامي… إذن الإعلام، في وجهة نظره، مجرد آلة صخب وتصفيق إذا لم تتفق مع رؤيته للأمور.
ما المطلوب في هذه الحالة؟ المطلوب ببساطة من الصحف والإذاعات والتلفزة الأرضية والفضائية العربية، ألا تتعامل مع هذه الفئة التي تسيء إلى الصحافة العربية. المطلوب تنقية الصحافة من هؤلاء المهرجين.
الصحافة مهنة يجب أن تحظى باحترام وثقة المتلقي، وناقل المعلومة لا بد أن يكون محل ثقة القارئ والمستمع والمشاهد. فكيف لنا أن نثق بمن قرر طوعيا أن يكون مناضلا لا صحافيا. فللنضال ساحته، ومن يريد أن يكون مناضلا فليذهب إلى مناطق المعارك التي تدور فيها رحى الحروب التي يؤمن بها ويتطوع للقتال دفاعا عن قضيته، أو ليكن عضوا فاعلا في حزب سياسي يمثل وجهة نظره وليتحدث من هذا الموقع، أما أن يدعي بأنه صحافي ويناضل بالكلام فهذا نضال سهل لا عبء على من يتبجح به. وهو يفقد العمل الصحافي أهم مقوماته وهي الحياد والموضوعية والتوازن. الصحافة مهنة على أبنائها أن يؤمنوا بدورها الأساسي في نقل المعلومة الصادقة، أما أن تتحول مهنة الصحافة إلى ترويج فهذا لم يعد مقبولا في عصر غدا فيه الإعلام من أهم المؤسسات ذات المصداقية في المجتمعات المتقدمة.
الصحافة العربية بتاريخها العريق يجب أن تتبرأ من هؤلاء، أو أن يتفق على معاملتهم كالمروجين ممن يتبعون الفرق الرياضية ويسافرون معها للهتاف والتشجيع والتصفيق لا لنقل المعلومة وما وراءها. صورة العربية في مؤتمرات دمشق كانت تدعو إلى الخجل، فهل من حوار حول تردي حال الصحافة في العالم العربي ؟ حوار جاد، وليس كحوارات مؤتمرات القمة.
* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)